ولم يسلم هذا القول من التعقب، وإيراد معنىً يختص بأنى دون غيرها؛ ومن أوائل من رفع ذلك الشعار وانتصر له أشد الانتصار الإمام أبو جعفر الطبري حيث إنه جمع عامة آيات الباب في تحرير بديع، ووقوف متأمل على الاضطراب في معنى (أنى)، وذكر أن معناها أعم وأشمل من خصوصية كيف أو متى أو من أين فقال: «والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: معنى قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة: ٢٢٣]. من أي وجه شئتم، وذلك أن (أنى) في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدئ بها في الكلام على المسألة عن الوجوه، والمذاهب، فكأن القائل إذا قال لرجل أنى لك هذا المال؟ يريد من أي الوجوه لك، ولذلك يجيب المجيب فيه، بأن يقول: من كذا وكذا كما قال تعالى ذكره مخبرا عن زكريا في مسألته مريم: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا}[آل عمران: ٣٧].وهي مقاربة أين وكيف في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها فأشكلت (أنى) على سامعها، ومتأولها، حتى تأولها بعضهم بمعنى أين، وبعضهم بمعنى كيف، وآخرون بمعنى متى، وهي مخالفة جميع ذلك في معناها وهن لها مخالفات، وذلك أن أين إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال، وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها، ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال: أين مالك؟. لقال بمكان كذا، ولو قال له أين أخوك؟ لكان الجواب أن يقول: ببلدة كذا، أو بموضع كذا؛ فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله فيعلم أن أين مسألة عن المحل. ولو قال قائل لآخر: كيف أنت؟ لقال صالح، أو بخير، أو في عافية، وأخبره عن حاله التي هو فيها؛ فيعلم حينئذ أن كيف مسألة عن حال المسؤول عن حاله. ولو قال له أنى يحيي الله هذا الميت؟ لكان الجواب أن يقال: من وجه كذا ووجه كذا، فيصف قولا نظير ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}[البقرة: ٢٥٩]. فعلاً حين بعثه من بعد مماته، وقد فرقت الشعراء بين ذلك في أشعارها فقال الكميت بن زيد: