للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيجاء بـ (أنى) للمسألة عن الوجه، وبـ (أين) للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع راجعك الطرب؟ والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: ٢٢٣]: كيف شئتم أو تأوله بمعنى حيث شئتم أو بمعنى متى شئتم أو بمعنى أين شئتم؛ أن قائلا لو قال لآخر أنى تأتي أهلك لكان الجواب أن يقول من قبلها أو من دبرها كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذ سئلت أنى لك هذا أنها قالت هو من عند الله، وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلوم أن معنى قول الله تعالى ذكره: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: ٢٢٣]. إنما هو فأتوا حرثكم من حيث شئتم، من وجوه المأتي وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل» (١).

وأيد مذهب أبي جعفر الطبري في معنى (أنى) أبو جعفر النَّحاس فقال في تفسير قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: ٣٧]، قال أبو عبيدة: المعنى من أين لك هذا؟ (٢)، وهذا القول فيه تساهل لأن (أين) سؤال عن المواضع، وأنى سؤال عن المذاهب والجهات، والمعنى: من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا؟». (٣)

وقرر ابن عطية هذا القول وأشار إلى أنه هو الاستعمال العربي، فقال: (أنى) إنما تجئ سؤالاً، أو إخباراً عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى، هذا هو الاستعمال العربي، وقد فسر الناس (أنى) في هذه الآية بهذه الألفاظ» (٤).

ونقل القرطبي كلام ابن عطية هذا بنصه (٥).

وبعد هذا العرض، وبما أن أقوال أهل اللغة متفقة مع أقوال السلف فهي أولى، وأقوال السلف حجة في التفسير واللغة، ويكون تفسيرهم ل (أنى) في جميع آيات الباب، تفسير للفظ بما يطابقه من اللغة، وما يناسبه من السياق، وأما قول ابن جرير ومن أيده وهو: أن أنى بمعنى من أي وجه،


(١) جامع البيان ٢/ ٥٢٧.
(٢) مجاز القرآن ١/ ٩١. وأبو عبيدة: معمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي البصري، النحوي اللغوي مولى بني عبيدالله بن معمر التيمي تيم بن مرة بن كعب، مات سنة ٢٠٨ هـ وعمره ٩٨. (معجم الأدباء ٧/ ١١٤ البلغة ٢٢٤).
(٣) معاني القرآن للزجاج ١/ ٣٨٩.
(٤) المحرر الوجيز ١/ ٢٩٩.
(٥) الجامع لأحكام القرآن ٣/ ٦٢.

<<  <   >  >>