تواتر الفتن واستمرارها بالشّام ومصر، وتكرار سفره إلى البلاد الشّامية، فما من سفرة سافر إليها إلا وينفق فيها أموالا عظيمة؛ زيادة على ألف ألف دينار، يجبيها من دماء أهل مصر ومهجهم «١» ، ثمّ يتقدّم إلى الشام فيخرّب الدّيار ويستأصل الأموال ويدمّر القرى.
ثمّ يعود وقد تأكّدت أسباب الفتنة، وعادت أعظم ما كانت، فخربت الإسكندرية، وبلاد البحيرة، وأكثر الشرقيّة، ومعظم الغربية، وتدمّرت بلاد الفيّوم، وعمّ الخراب بلاد الصعيد بحيث بطل منها زيادة على أربعين خطبة «٢» ، ودثر ثغر أسوان وكان من أعظم ثغور المسلمين، وخرب من القاهرة وأملاكها وظواهرها زيادة عن نصفها، ومات من أهل مصر فى الغلاء والوباء نحو ثلثى النّاس، وقتل فى الفتن بمصر مدّة أيّامه خلائق لا تدخل تحت حصر. مع مجاهرته بالفسوق، من شرب الخمر، وإتيان الفواحش، والتجرّؤ العظيم على الله جلت قدرته.
ومن العجيب أنّه لمّا ولد كان قد أقبل يلبغا الناصرىّ بعساكر الشّام لينزع أباه الملك الظاهر برقوق من الملك- وهو فى غاية الاضطراب من ذلك- فعند ما بشر به قيل له: ما تسميه؟ ... قال: بلغاق «٣» - يعنى فتنة- وهى كلمة تركيّة، فقبض على أبيه الملك الظّاهر وسجن بالكرك- كما تقدّم ذكره.
فلمّا عاد إلى الملك عرض عليه فسمّاه فرجا، ولم يسمّه أحد لذلك اليوم إلّا بلغاق، وهو فى الحقيقة ما كان إلّا فتنة، أقامه الله- سبحانه وتعالى- نقمة على النّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا.