يباشر من النصارى فى ديوان السلطان، ثم سجن أيضا بعد إشهاره، وصمّم السلطان فى ذلك حتى انكفّ النصارى عن المباشرة فى سائر دواوين الدّيار المصرية، ولزموا بيوتهم، وصغّروا عمائمهم وضيّقوا أكمامهم، والتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير، بحيث إنّ العامة صارت إذا رأوا نصرانيا على حمار ضربوه وأخذوا حماره وما عليه، فصاروا لا يركبون الحمار إلا بخارج القاهرة، وبذل النصارى جهدهم فى السّعى إلى عودهم إلى المباشرة وأوعدوا بمال كبير، وساعدتهم كتّاب الأقباط، فلم يلتفت السلطان إلى قولهم، وأبى إلا ما رسم به من المنع.
قلت: ولعلّ الله أن يسامح الملك المؤيّد بهذه الفعلة عن جميع ذنوبه، فإنها من أعظم الأمور فى نصرة الإسلام، ومباشرة هؤلاء النصارى فى دواوين الديار المصرية من أعظم المساوئ الذي نوّل منه التعظيم إلى دين النصرانية؛ لأن غالب الناس من المسلمين يحتاج إلى التّردّد إلى أبواب أرباب الدّولة لقضاء حوائجهم، فمهما كان لهم من الحوائج المتعلقه بديوان ذلك الرئيس فقد احتاجوا إلى التواضع والترقق إلى من بيده أمر الديوان المذكور، نصرانيا كان أو يهوديا أو سامريا «١» ، وقد قيل فى الأمثال «صاحب الحاجة أعمى لا يريد إلا قضاءها» فمنهم من يقوم بين يدى ذلك النّصرانى على قدميه والنصرانى جالس ساعات كثيرة حتى يقضى حاجته بعد أن يدعو له ويتأدب معه تأدبا لا يفعله مع مشايخ العلم، ومنهم من يقبّل كتفه ويمشى فى ركابه إلى بيته إلى أن تقضى حاجته، وأما فلاحو القرى فإنه ربما النّصرانىّ المباشر يضرب الرجل منهم ويهينه ويجعله فى الزّنجير «٢» ، ويزعم بذلك خلاص مال أستاذه، وليس الأمر كذلك وإنما يقصد التحكّم فى المسلمين لا غير، فهذا هو الذي يقع للأسير من المسلمين فى بلاد الفرنج بعينه لا زيادة على ذلك غير أنه يملك رقّه.