ناصر الدين بن البارزى على العادة، وخطب خطبة بليغة من إنشائه، وسبك فى الخطبة الحديث الذي ذكره النّبيّ- صلّى الله عليه وسلم- عند موت ولده إبراهيم «إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليخشع وإنّا لمحزنون على فراقك يا إبراهيم ... الخ» فلما ذكر ذلك ابن البارزى على المنبر بكى السلطان وبكى الناس لبكائه فكانت ساعة عظيمة، ثم ركب السلطان بعد الصلاة من الجامع المؤيّدى وعاد إلى القلعة، وأقام القرّاء يقرءون القرآن على قبره سبع ليال.
وفى هذه الأيام توقّف النيل عن الزّيادة، وغلا سعر الغلال، ونودى بالقاهرة بالصّيام ثلاثة أيام، ثم بالخروج إلى الصحراء للاستسقاء «١» ، فصام أكثر الناس وصام السلطان، فنودى بزيادة إصبع ممّا نقصه، ثم نودى فى يوم الأحد رابع عشرينه بالخروج من الغد للصحراء خارج القاهرة، فلما كان الغد يوم الاثنين خرج شيخ الإسلام قاضى القضاة جلال الدين البلقينى وسار حتى جلس فى فم الوادى قريبا من قبّة النّصر- وقد نصب هناك منبر- فقرأ سورة الأنعام، وأقبل الناس أفواجا من كل جهة حتى كثر الجمع ومضى من شروق الشمس نحو الساعتين أقبل السلطان بمفرده على فرس وقد تزيّا بزىّ أهل التّصوّف، واعتمّ على رأسه بمئزر صوف لطيف، ولبس على بدنه ثوب صوف أبيض، وعلى عنقه مئزر صوف [بعذبة]«٢» مرخاة على بعض ظهره، وليس فى سرجه ولا شىء من قماش فرسه ذهب ولا حرير، فأنزل عن الفرس وجلس على الأرض من غير بساط ولا سجّادة مما يلى يسار المنبر، فصلّى قاضى القضاة ركعتين كهيئة صلاة العيد والناس وراءه يصلّون بصلاته، ثم رقى المنبر فخطب خطبتين حثّ الناس فيهما على التّوبة والاستغفار وأعمال البرّ وحذّرهم ونهاهم، وتحوّل فوق المنبر واستقبل القبلة ودعا فأطال الدعاء، والسلطان فى ذلك كلّه يبكى وينتحب وقد باشر فى سجوده التّراب بجبهته، فلما انقضت الخطبة ركب السلطان فرسه مع عدم قدرته على القيام،