فلما كانت الليلة الثانية مات منهم ثلاثون إنسانا وأصبحوا فإلى أن يأخذوا فى دفنهم مات منهم ثمانية عشر.
قال: واتفق أن إقطاعا بالحلقة تنقّل فى أيام قليلة إلى تسعة نفر، وكل منهم يموت، ومن كثرة الشغل بالمرضى والأموات تعطّلت الأسواق من البيع والشراء، وتزايد ازدحام النّاس فى طلب الأكفان والنعوش، فحملت الأموات على الألواح، وعلى الأقفاص، وعلى الأيدى، وعجز الناس عن دفن أمواتهم، فصاروا يبيتون بها فى المقابر والحفارون طول ليلتهم يحفرون، وعملوا حفائر كبيرة بلغ فى الحفرة منها عدّة أموات، وأكلت الكلاب كثيرا من أطراف الأموات، وصار الناس ليلهم كلّه يسعون فى طلب الغسال والحمّالين والأكفان، وترى النعوش فى الشوارع كأنها قطارات جمال لكثرتها، متواصلة بعضها فى إثر بعض- انتهى كلام المقريزى.
ثم فى يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة المذكورة جمع الشريف شهاب الدين «١» أحمد كاتب السّرّ بالديار المصرية بأمر السلطان أربعين شريفا، اسم كل شريف منهم محمد، وفرّق فيهم من ماله خمسة آلاف درهم، وأجلسهم بالجامع الأزهر فقرءوا ما تيسّر من القرآن الكريم بعد صلاة الجمعة، ثم قاموا هم والناس على أرجلهم ودعوا الله تعالى- وقد غص الجامع بالناس- فلم يزالوا يدعون الله حتى دخل وقت العصر فصعد الأربعون شريفا إلى سطح الجامع وأذّنوا جميعا، ثم نزلوا وصلّوا مع الناس صلاة العصر وانفضّوا، وكان هذا بإشارة بعض الأعاجم، وأنه عمل ذلك ببلاد الشرق فى وباء حدث عندهم فارتفع عقيب ذلك.
ولما أصبح الناس فى يوم السبت أخذ الوباء يتناقص فى كلّ يوم بالتدريج حتى انقطع، غير أنه لما نقلت الشمس إلى برج الحمل فى يوم ثامن عشر جمادى الآخرة المذكورة ودخل فصل الرّبيع، وأخذ الطاعون يتناقص، غير أنه فشا الموت من يومئذ فى أعيان النّاس وأكابرهم ومن له شهرة، بعد ما كان أوّلا فى الأطفال