فى بكرة يوم الجمعة المذكور، وعرّفه بأمر قرقماس، فندب السلطان ولده المقام الناصرى محمدا للنزول إليه، فركب وسار فى خدمته عبد الباسط حتى أتوا إلى موضع كان فيه قرقماس.
حدّثنى المقام الناصرى محمد المذكور، قال: لما دخلت على قرقماس قام إلىّ وانحطّ يقبل قدمى فمنعته من ذلك فغلبنى وقبّل قدمى، ثم يدى، ثم شرع يتخضّع إلىّ ويتضرع، وقد علاه الذل والصغار، ولم أر فى عمرى رجلا ذلّ كذلته، ولا جزع جزعه، وأخذت أسكّن روعه، وجعلت فى عنقه منديل الأمان الذي أرسله والدى إليه، فقبل يدى ثانيا ثم أراد الدخول تحت ذيلى، فلم أمكنه من ذلك إجلالا له، ثم خرجنا من ذلك المجلس وركبنا وأركبناه فرسا من جنائبى، ومضينا به إلى القلعة، وهو فى طول طريقه يبكى ويتضرع إلىّ بحيث أنه رقّ عليه قلبى، وكلما مررنا به على أحد من العامة، شتمه ووبخه، وأسمعه من المكروه مالا مزيد عليه، حتى لو أمكنهم رجمه لرجموه.
هذا ما حكاه المقام الناصرى، ولما أن وصل قرقماس إلى القلعة، وبلغ السلطان وصوله جلس على عادته، فحال ما مثل بين يديه خرّ على وجهه يقبل الأرض، ثم قام ومشى قليلا، ثم خرّ وقبّل الأرض ثانيا، هذا ووجهه صار «١» كلون الزعفران من الصفار وشدة الخوف، فلما قرب من السلطان أراد أن يقبل رجله، فمنعوه أرباب الوظائف من ذلك، ثم أخذ يتضرع، فلم يطل السلطان وقوفه [٩٨] ووعده «٢» بخير على هينته.
ثم أمر به، فأخذ وأدخل إلى مكان بالحوش، فقيّد فى الحال، وهو يشكو الجوع، وذكر أنه من يوم الوقعة ما استطعم بطعام، فأتى له بطعام فأكله، وقد زال عنه تلك الأبهة والحشمة من عظم ما داخله من الخوف والذل، ولهجت العامة تقول فى الطرقات:
«الفقر والإفلاس ولا ذلتك يا قرقماس» . قلت: وما أبلغ قول القائل فى معناه: