يدلّ على ذلك يستخفّ عقله ويهزأ به، حتى لقد بلغنى من بعض أصحابنا الثقات أنه قال للأمير تمربغا مشافهة. «بلغنى أن الأشرفيّة في عزم الرّكوب على السلطان» فضحك تمربغا وقال: «هم نقطوا بعقلهم» ؛ ازدراء بأمرهم واستخفافا بشأنهم، وليس هذا من شأن من قد صار أمور المملكة بيده في سائر أحوالها، وإنما شأن الذي يكون في هذه الرتبة أن يفحص دائما عن أخبار أصدقائه وأعدائه، ولا يكذّب مخبرا ولا ينهر منذرا، بل يسمع كلام كلّ ناصح نصحه، فيأخذ ما صلح بباله، ويترك ما لم يعجبه، من غير أن يفهم عنه لأحد من نصحائه عدم قبول كلامه، بل يشكره على ذلك ويثنى عليه، ويحرّضه على ما هو فيه، ويصغى لكلام كلّ قائل حتى يفهمه، ثم يفعل ما بدا له، هذا مع الاحتراز والتحرّى في أموره، واستجلاب الخواطر، وتأليف القلوب له ولسلطانه، ما دامت الدولة مضطربة كما هى عادة أوائل الدّول، فيصير بذلك فى غالب أموره على يقظة، فإن كان خيرا فيحمد الله على التوفيق، وإن كان شرّا فيتأهب لذلك قبل وقوعه، ثم بلقاه بعد استحكام واستعداد بقوة جنان، وبذل النفوس والأموال، وهيهات بعد ذلك إن تم الأمر أو لم يتم، فإن كان النصر فهو من عند الله، وإن كانت الأخرى فيكون لما سبق في الأزل، فيزول ملكه، وهو معذور مشكور، لاندمان مقهور، فأين هذا مما كان فيه هؤلاء القوم، وقد صار الناس عند الأمير الكبير إينال، ولبسوا السلاح، وأجمعوا على قتالهم، وهم إلى الآن في تكذيب الأخبار واستبعاد ما سيكون، فمن أساء لا يستوحش، والمفرّط أولى بالخسارة، وعدم التدبير هو أصل التدمير، وهو كما قيل:-[السريع]
ما يفعل الأعداء في جاهل ... ما يفعل الجاهل في نفسه
وبات الملك المنصور وأمراؤه في ليلة الاثنين مستهل شهر ربيع الأوّل على تفرقة النفقة على المماليك السلطانية في غده، وقد انبرم أمر القوم، وتجهزوا لما عساه يكون.