قايتباى رأس نوبة النّوب باستقراره أتابك العساكر عوضا عن نفسه، ولقّب بالملك الظاهر أبى سعيد تمربغا، وهذا ثالث سلطان لقّب بالملك الظاهر واحدا بعد واحد لم يكن بينهم أحد، ولم يقع ذلك في دولة من الدّول بسائر الأقطار.
ودقّت البشائر ونودى باسمه بشوارع القاهرة ومصر، وكان حين سلطنته الثانية من النهار والساعة للمشترى، والطالع الجدى وزحل.
وتمّ أمر الملك الظاهر في الملك، وزالت دولة الملك الظاهر يلباى كأنها لم تكن، وطلع الأعيان لتهنئته أفواجا، وسرّ الناس بسلطنته سرورا زائدا، تشارك فيه الخاص والعام قاطبة؛ لكونه أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فإننا لا نعلم في ملوك مصر في الدولة التركية أفضل منه ولا أجمع للفنون والفضائل؛ مع علمى بمن ولى مصر قديما وحديثا كما مرّ ذكره في هذا الكتاب، من يوم افتتحها عمرو بن العاص- رضى الله عنه- إلى يوم تاريخه، ولو شئت لقلت: ولا من بنى أيوب؛ مع علمى محاسن السلطان صلاح الدين السعيد الشهيد، وماله من اليد البيضاء في الإسلام، والمواقف العظيمة والفتوحات الجليلة، والهمم العالية- أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه «١» .
غير أن الملك الظاهر تمربغا هذا في نوع تحصيل الفنون والفضائل أجمع من الكل؛ فإنه يصنع القوس بيده وكذلك النشاب، ثم يرمى بهما رميا لا يكاد يشاركه فيه أحد شرقا ولا غربا، انتهت إليه رئاسة الرمى في زمانه، وله مع هذا اليد الطولى فى فنّ الرمح وتعليمه، وكذلك البرجاس، وسوق المحمل، وتعبئة العساكر، وأما فن اللجام ومعرفته، والمهماز وأنواع الضرب به فلا يجارى فيهما، ويعرف فنّ الضرب بالسيف، وأما فن الدّبّوس فهو فيه أيضا أستاذ مفتن، بل تلامذته فيه أعيان الدنيا، هذا مع معرفة الفقه على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان- رضى الله عنه- معرفة جيدة، كثير الاستحضار لفروع المذهب وغيرها، ثم مشاركة كبيرة في التاريخ والشعر