ومضى حصين بن نمير في أصحابه حتى قدم مكة فنزل بالحجون إلى بئر ميمون وعسكر هناك. فحاصر ابن الزبير قبل سلخ المحرم بأربع ليال وصفرَ وشهر ربيع الأول، فكان الحصر أربعة وستين يومًا، يتقاتلون فيها أشد القتال، ونصب الحصين المنجنيق على ابن الزبير وأصحابه ورمى الكعبة، ولقد قتل من الفريقين بشر كثير، وأصاب المِسْوَرَ فلْقة من حجر المنجنيق فمات ليلة جاء نَعِيُّ يزيدَ بن معاوية، وذلك لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين.
فكلم حصين بن نمير ومن معه من أهل الشام عبد الله بن الزبير أن يدعهم يطوفوا بالبيت وينصرفوا عنه، فشاور في ذلك أصحابه ثم أذن لهم فطافوا، وكلم ابن الزبير الحصين بن نمير وقال له: قد مات يزيد وأنا أحق الناس بهذا الأمر، لأن عثمان عهد إليّ في ذلك عهدًا، صلى به خلفي طلحة والزبير، وَعَرَفته أم المؤمنين، فبايِعْني، وادخل فيما دخل فيه الناس معي، يكن لك ما لهم، وعليك ما عليهم. قال له الحصين بن نمير: إني والله يا أبا بكر لا أتقرب إليك بغير ما في نفسي، أَقْدُم الشام فإن وجدتهم مجتمعين لك أطعْتُكَ، وقاتلتُ من عصاك، وإن وجدتهم مجتمعين على غيرك أطعته وقاتلتك ولكن سر أنت معي إلى الشام أملّكُك رقاب العرب. فقال ابن الزبير: أو أبعث رسولًا. قال: تَبًّا لك سائر اليوم، إن رسولك لا يكون مثلك.
وافترقا وأمِنَ الناسُ ووضعت الحرب أوزارها، وأقام أهل الشام أيامًا يبتاعون حوائجهم، ويتجهزون، ثم انصرفوا راجعين إلى الشام. فدعا ابن الزبير من يومئذ إلى نفسه، فبايع الناس له على الخلافة، وسُمي أمير المؤمنين، وترك الشعار الذي كان عليه، ويدعى به، عائذ الله، ولا حكم إلا لله، قبل أن يموت مصعب بن عبد الرحمن بن عوف والمسور بن مخرمة. وفارقته الخوارج وتركوه، وولّى العمال، فولّى المدينة: مصعب بن الزبير بن العوام فبايع له الناس، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى البصرة فبايعوه، وبعث عبد الله بن مطيع إلى الكوفة فبايعوه، وبعث عبد الرحمن بن عتبة بن جَحْدَم الفهري إلى مصر أميرًا فبايعوه، وبعث واليه إلى اليمن فبايعوه، وبعث واليه إلى خراسان فبايعوه، وبعث الضحاك بن قيس الفهري إلى الشام واليًا فبايع له عامة أهل الشام، واستوسقت له البلاد كلها، ما خلا طائفة من أهل الشام، كان بها مروان بن الحكم وأهل بيته (*).