للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكُفَّارُ، فَلَهُمُ الْفِرَارُ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الظَّفَرُ. وَإِنْ أُلْقِيَ فِي مَرْكَبِهِمْ نَارٌ، فَعَلُوا

ــ

[المبدع في شرح المقنع]

{إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: ١٥] وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَّ الْفِرَارَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (مِنْ ضَعْفِهِمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: ٦٦] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَرَّ، وَفِي " الْمُنْتَخَبِ ": لَا يَلْزَمُ ثَبَاتُ وَاحِدٍ لِاثْنَيْنِ، وَكَلَامُ الْأَكْثَرِ بِخِلَافِهِ.

وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ وَأَبُو طَالِبٍ إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ إِلَى قِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: ١٦] وَمَعْنَى التَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ: أَنْ يَنْحَازَ إِلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ الْقِتَالُ فِيهِ أَمْكَنَ كَمَنْ كَانَ فِي وَجْهِ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ، أَوْ فِي مَكَانٍ يَنْكَشِفُ فِيهِ، فَيَنْحَرِفُ وَاحِدَةً، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ.

قَالَ: عُمَرُ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ. فَانْحَازُوا إِلَيْهِ وَانْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَمَعْنَى التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ: هُوَ أَنْ يَصِيرَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ مَعَهُمْ، فَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ. وَظَاهِرُهُ وَلَوْ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ، كَخُرَاسَانَ، وَالْحِجَازِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنِّي فِئَةٌ لَكُمْ» وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنْهُ، وَقَالَ عُمَرُ: أَنَا فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَجُيُوشُهُ بِالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.

(وَإِنْ زَادَ الْكُفَّارُ) عَلَى مِثْلَيْهِمْ (فَلَهُمُ الْفِرَارُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: ٦٥] . شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: ٦٦] الْآيَةَ فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَدَدِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ مِنَ الْعَدَدِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ الْفِرَارُ مِنْ أَدْنَى زِيَادَةٍ، وَهُوَ أَوْلَى مَعَ ظَنِّ التَّلَفِ بِتَرْكِهِ، وَأَطْلَقَ ابْنُ عَقِيلٍ اسْتِحْبَابَ الثَّبَاتِ لِلزَّائِدِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ (إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِمْ) أَيْ ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ (الظَّفَرُ) فَيَلْزَمُهُمُ الْمُقَامُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمُ الْفِرَارُ لِيَنَالُوا دَرَجَةَ الشُّهَدَاءِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الْقِتَالِ مُحْتَسِبِينَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>