ثم اشتد مرض السلطان فى يوم الثلاثاء خامس عشرين ذى القعدة واحتجب عن الناس، ومنع الناس قاطبة من الدخول عليه، سوى الأمير إينال الأبوبكريّ [٣٩] الأشرفى شادّ الشراب خاناه، وعلى باى الأشرفى الخازندار، وجوهر اللّالا الزّمام؛ وصار إذا طلع مباشر والدولة إلى الخدمة السلطانية على العادة يعرّفهم هؤلاء بحال السلطان، وليس أحد من أكابر الأمراء يطلع إلى القلعة، لمعرفتهم بما السلطان فيه من شدة المرض، وأيضا لكثرة الكلام فى المملكة. وقد صارت المماليك طوائف، وتركوا التّسيير إلى خارج القاهرة وجعلوا دأبهم التسيير بسوق الخيل تحت القلعة «١» والكلام فى أمر السلطان. وبطلت العلامة «٢» ، وتوقف أحوال الناس لاختلاط عقل السلطان من غلبة المرض عليه، وخيفت السبل ونقل الناس «٣» أقمشتهم من بيوتهم إلى الحواصل مخافة من وقوع فتنة. وأخذ الطاعون يتناقص فى «٤» هذه الأيام وهو أوائل ذى الحجة، ومرض السلطان يتزايد. وكان ابتداء مرض السلطان ضعف الشهوة للأكل، فتولد له من ذلك أمراض كثيرة آخرها نوع من أنواع الملنخوليا، وكثر هذيانه وتخليطه فى الكلام، ولازمه الأرق والسهر مع ضعف قوته.
هذا مع أن المماليك فى هذه الأيام صاروا طائفة وطائفة: فطائفة منهم يريدون أن يكون الأمير الكبير جقمق العلائى هو مدبر المملكة كما أوصاه الملك الأشرف، وهم الظاهرية البرقوقية والناصرية والمؤيّدية والسّيفية؛ وطائفة وهم الأشرفية، يريدون الاستبداد بأمر ابن أستاذهم، كل ذلك من غير مفاوضة فى الكلام. وبلغ الأمير إينال الأبوبكريّ المشدّ ذلك، وكان أعقل المماليك الأشرفية وأمثلهم وأعلمهم، فأخذ فى إصلاح الأمر بين الطائفتين، بأن طيّب «٥» المماليك الأشرفية إلى الحلف على طاعة ابن السلطان والأمير الكبير جقمق العلائى، حتى أذعنوا ورضوا. فتولى تحليفهم القاضى شرف الدين نائب كاتب السر