وفى هذه الأيام أشيع بالقاهرة أن أبا «١» الخير النحاس قد تجنّن فى سجنه، وأنه صار يخلط فى كلامه، قلت: وحقّ له أن يتجنن، فإنه كان فى شىء، ثم صار فى شىء، ثم عاد إلى أسفل ما كان، وهو أنه كان أولا فقيرا مملقا متحيلا على الرزق، دائرا على قدميه فى النّزه والأوقات، ثم وافته «٢» السعادة على حين غفلة «٣» حتى نال منها حظا كبيرا، ثم حطه الدهر يدا واحدة، فصار فى الحبس، وفى رقبته الجنزير، يترقب ضرب الرقبة، بعد ما وقع له من الإخراق والبهدلة وشماته الأعداء، وأخذ أمواله ما وقع، فهو معذور: دعوه يتجنن ويتفنن فى جنونه «٤» .
ثم فى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، استغاث الشريف غريم النحاس على رؤوس الأشهاد، وقال: قد ثبت الكفر على غريمى النحاس، وأقيمت البينة، والقاضى لا يحكم بموجب كفره وضرب رقبته؛ وكان الشريف هذا قد وقف إلى السلطان قبل تاريخه، وذكر نوعا من هذا الكلام، فرسم السلطان للقاضى المالكى، أنه إن ثبت على أبى الخير المذكور كفر، فليضرب رقبته بالشرع، ولا يلتفت لما بقى عنده من مال السلطان، فإن حقّ النبي صلى الله عليه وسلم أبدا من «٥» حق السلطان.
فلما سمع الشريف ذلك؛ اجتهد غاية الاجتهاد، والقاضى يتثبت فى أمره؛ ثم بلغ القاضى المالكى مقالة الشريف هذه، فركب وطلع إلى السلطان واجتمع به وكلمه فى أمر النحاس، فأعاد السلطان عليه الكلام كمقالته أولا، وقال له كلاما معناه: أنّ هذا أمره راجع إليك، ومهما كان الشرع افعله معه، ولا تتعوّق لمعنى من المعانى، فقال القاضى المالكى: يا مولانا السلطان، قد فوّضت هذه الدعوى لنائبى القاضى كمال الدين بن عبد الغفار، فهو ينظر فيها بحكم الله تعالى؛ وانفض المجلس.