للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من القضاة وغزير علمهم، ومع هذا كله، ليس فيهم أحد يدانيه فى ذلك، غير قاضى القضاة بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادى الحنبلى، وإن كانت بضاعته مزجاة من العلوم، فهو أيضا كان من هذه المقولة، وليس حسن السيرة متعلقة بكثرة العلم وإنما ذلك متعلق: بالتحرى، والدين، والعقل، والحذق، والعفة.

وقد حكى لى صاحبنا محمد بن تلتى، قال: غضب علىّ السلطان بسبب تعلقات الذخيرة من جهة ميراث، ورسم أن أتوجه إلى القاضى الحنبلى، وأن يدّعى علىّ عنده، ويرسّم علىّ، فادّعى علىّ، فأجبت بجواب مرضىّ، فقال القاضى: اذهب إلى حال سبيلك، ليس لأحد عندك شىء. فقلت: أخشى من سطوة السلطان، لا بد أن أقيم فى الترسيم، فامتنع من ذلك، فقلت: أقيم على باب القاضى كأننى فى الترسيم خشية من السلطان، فأقمت نحو الشهر على بابه أحضر سماطه فى طرفى النهار، ورسل السلطان تترد إليه، وهو يردّ الجواب بأن لا حقّ لهم عندى، فلما أعياهم أمره، نقلونى من عنده إلى بيت بعض أعيان قضاة القضاة، ففى اليوم المذكور غرمت لحاشيته ثلاثين دينارا، وقرّر علىّ نحو المائة ألف درهم للسلطان بغير وجه شرعى، ولم أر وجه القاضى المذكور فى ذلك اليوم غير مرة واحدة، وإنما صرت بين أيدى حواشيه، كالفريسة يتناهبونى من كل جهة، حتى هان علىّ أنى أزن، مهما أرادوا، وأتخلص من أيديهم- انتهى.

قلت: وقد خرجنا عن المقصود بذكر هذه الحكاية عن القاضى الحنبلى، ووقع مثل هذا وأشباهه لقاضى القضاة بدر الدين هذا غير مرة، ومحصول الأمر: أنه كان عفيفا [١٩٧] ديّنا حسن السيرة مشكور الطريقة، بريّا عما يرمى به قضاة السوء، وكان رحمه الله، له سماع كثير فى الحديث وإلمام بالأدب، وله نظم جيد، ومما نظمه فى النوم فى طاعون سنة سبع وأربعين وأنشدنيه «١» قاضى القضاة بدر الدين المذكور، إجازة إن لم يكن سماعا: [الوافر]