عظيم التنفيذ شهما، وكان هو المتصرف في الأمور أيّام أبيه في غالب الولايات والعزل وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنّ كل أحد أن لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا، لمعرفة الناس بحذقه وفطنته.
وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه، فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلم مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلغ الأمراء أنّه في خلوته يسامر الأطراف الأوباش الذين يستحى من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلو كان عدم الكلام مع الناس قاطبة لهان على من صعب سكاته عليه، من كون الرفيع يكون مبعدا والوضيع مقربا، فهذا أمر عظيم لا تحمله النفوس إلا غصبا، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقد فرصة، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشّع في العبارة وشنّع، وقال هذا وغيره: إنه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخچداشية أبيه وبالمال الذي خلّفه أبوه، ومنهم من قال أيضا: إنما هو مستعز «١» بحسن تدبيره، فإنه قد عبّأ «٢» لكل سؤال جوابا، ولكل حرب ضربا، وكان مع هذا قد قمع مباشرى الدّولة وأبادهم، وضيّق عليهم، ودقّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر!! فنفرت قلوب المباشرين أيضا منه، وحقّ لهم ذلك، واستمرت هذه الحرمة من يوم تسلطن إلى مجىء يحيى بن جانم نائب الشام إلى القاهرة، ثم إلى أن عيّن التجريدة إلى البحيرة، فأخذ أمره في إدبار، لعدم مثابرته على سير طريقه الأوّل من سلطنته، فلو جسر لكسر، لكنه هاب فخاب، ولكلّ أجل كتاب- ولنعد إلى ذكر ما كنا بصدده: