المال الجزيل في القدر اليسير في قيام الحرمة، فأشرت عليه بالمداخلة، فداخله، وكنت أنا قبل ذلك داخلته أياما، فإذا به جامد نفور بعيد الاستمالة إلا لمن ألفه، وحدّثته «١» بما رأيته منه قبل أن أشير عليه بصحبته، فقال ما معناه: إنى أنا آخذ الشيء بعزة وتمهل، وهو يدور مع الدهر كيفما دار، ثم اجتمع بى بعد مدّة أيام في يوم الجمعة بعد أن صلّى معه الجمعة، وقلع ما عليه من قماش الموكب، ودخل إليه في الخلوة بقاعة الدهيشة، ثم خرج من عنده وهو غير منشرح الصدر، وقال لى:«القول ما قلته» ، ثم شرعنا فيما نحن في ذكره مجلسا طويلا، وقمنا على غير رضاء من الملك المؤيّد.
ووقع في أثناء ذلك ما ذكرناه من أمر الوقعة والفتنة، ووقوف جانبك ومن معه برأس سويقة منعم، هذا مع ما كان بلغ المؤيد في هذا اليوم وفي أمسه أن القائم بهذا الأمر كله جانبك نائب جدّة، وأنه هو أكبر الأسباب في زوال ملكه، وفي اجتماع الناس على الأتابك خشقدم، ثم رأى في هذا اليوم بعينه من قصر القلعة وقوف جانبك على تلك الهيئة، فعلم أن كل ما قيل عنه في أمسه ويومه صحيح، فأخذ عند ذلك يعتذر وكتب كتابا للأمير جانبك بخطّه يعده فيه بأمور، منها: أنه يجعله إن دخل في طاعته أتابك العساكر بالدّيار المصريّة، وأنه لا يخرج عن أوامره، وأنه يكون هو صاحب عقده وحلّه، ويترقّق له، وبسط الكلام في معنى ما ذكرناه أسطرا كثيرة، وهو يكرّر السؤال فيه، ويحلف له فيما وعده به، ورأيت أنا الكتاب بعينى، وفيه لحن كثير، كأنه كان مامارس العربيّة، ولا له إلمام بالمكاتبات، على أنه كان حاذقا فطنا، غير أن الفضيلة نوع آخر، كما كانت رتبة المقام الناصرى محمد ابن الملك الظاهر جقمق- رحمهما الله تعالى- فلم يرث جانبك لما تضمن هذا الكتاب، ودام على ما هو عليه، ونهر قاصده الحامل لهذا الكتاب، وقال له:«إن عدت إلىّ مرّة أخرى أرسلتك إلى الأمير الكبير» ، واستمر على ما هو عليه من الاجتهاد في القتال، وصار أمر الملك المؤيد في إدبار، وعساكر الأتابك خشقدم في نموّ وزيادة.