(٢) قال أبو منصور في «التهذيب» (مادة: عفو): «هذه آية مُشكِلة، وقد فسرها ابن عباس ثم من بعده تفسيرًا قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم، فرأيت أن أذكر قول ابن عباس وأؤيده بما يزيده بيانًا ووضوحًا». قال: «حدثنا محمد بن إسحاق السعدي، قال: حدثنا المخزومي، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كان القصاص في بني إسرائيل، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله جل وعز لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد - إلى قوله: - فمن عفي له من أخيه شاء}، قال: فالعفو: أن يقبل الدية في العمد، {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم، يَطلُب هذا بإحسان، ويؤدي هذا بإحسان». قال الأزهري: «فقول ابن عباس: (العفو: أن يقبل الدية في العمد) .. الأصل فيه أن العفو في موضوع اللغة: الفضل، يقال: (عفا فلان لفلان بماله): إذا أفضل له، و (عفا له عما عليه): إذا تركه، وليس العفو في قوله: {فمن عفي له} عفوًا من ولي الدم، ولكنه عفو من الله جل وعز، وذلك أن سائر الأمم قبل هذه الأمة لم يكن لهم أخذ الدية إذا قُتل قتيل، فجعله الله لهذه الأمة عفوًا منه وفضلًا، مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد، وهو قول الله جل وعز: {فمن عفي له من أخيه شيء}؛ أي: من عفا الله جل وعز اسمه له بالدية حين أباح له أخذها بعدما كانت محظورة على سائر الأمم مع اختياره إياها على الدم، و (مِنْ) في قوله: {من أخيه} معناها البدل، والعرب تقول: (عرضت له من حقه ثوبًا)؛ أي: أعطيته بدل حقه ثوبًا؛ أي: من أُحِلَّ له أخذ الدية بدل أخيه المقتول، {فاتباع بالمعروف}؛ أي: مطالبة للدية بمعروف، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسان، ثم بين ذلك، فقال: {ذلك تخفيف من ربكم} لكم يا أمة محمد، وفضل جعله لأولياء الدم منكم، {ورحمة} خصكم بها، {فمن اعتدى بعد ذلك}؛ أي: من سفك دم قاتل وليه بعد قبوله الدية، {فله عذاب أليم}». وقال في «الزاهر» (ص: ٤٧٩): «ومعنى قول الشافعي: ({فمن عفي له من أخيه شيء}؛ يعني: من عفي له عن القصاص) .. إن الله عز وجل عفا لولي الدم عن القصاص شاء أو أبى، وجعل له إن شاء أخذ الدية، حتى يكون موافقًا لما تأوله ابن عباس». قال الأزهري: «وما علمت أحدًا أوضح من معنى هذه الآية ما أوضحته، فتدبره واقبله بشكرٍ إذا بان لك صوابه»، وقال: «إنه من أصعب معنى في مُشكِل القرآن».