وإذن فقد سقط الاحتجاج بمذاهب الصحابة في معارضة النصوص الشرعية، وسقط بالأولى تقليد ما بُنِي عليها من مدارس الأمصار، وهذا الذي عُرف في أوساط الأصوليين بـ «ترك خبر الآحاد لمخالفته القياس»، وليس هناك أحد من علماء الشريعة يرضى لنفسه ترك الخبر آحادًا أو غيره للقياس، كيف وقد ذكر الشافعي (ف: ٢١١٢) مناظرته محمد بن الحسن الشيباني في بعض ما خالف فيه أصحابه ثم رجوعه إلى نحو قول الشافعي، وذكر أنه قال:«ما ينبغي أن يدخل على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- القياس»، قال المُزَني:«كان محمد بن الحسن من أنصف الناس في هذا الموضع»، ولك أن تسأل: إن أصحاب أبي حنيفة أشهر من يُنقل عنه القول بالقياس في خلاف خبر الواحد، فكيف صحَّ للشيباني وهو أصل مذهبهم أن يصرِّح بخلاف ما هم عليه؟ والجواب: أن تقديم القياس على الخبر ليس مذهب أحد من علماء الإسلام، وإنما مرجعه إلى تقديم ما كان عليه فقهاء البلد مما يقتضيه القياس على خبر الآحاد، كيف وعامة الخبر آحاد، ولازم مثل هذا القول تقديم القياس على الخبر جملة وتفصيلًا؟
ومما يجب التنبيه إليه في ذكر اتباع ما جرى عليه العمل من فقه الأمصار أن الشافعي لم ينكره جملة، وإنما أنكر تقليده فيما عارض النصَّ الثابت، وأمَّا ما لم يعارضه فلم ينكره الشافعي، بل إنه نفسه اعتمد على بعض فقه أصحابه من أهل الحجاز، فذكر في صدقات ذوي القربى أنه يُعْطَى الرجلُ سَهْمَيْن، والمرأةُ سهمًا، ولا يُفَضَّلُ أحَدٌ على أحَدٍ؛ لأنَّهم أعْطُوا باسمِ القرابةِ، قال (ص: ١٩٢١): «والدَّلالةُ على صِحَّةِ ما حَكَيْتُ مِنْ التَّسْوِيَةِ: أنَّ كُلَّ مَنْ لَقِيتُ مِنْ علماءِ أصْحابِنا لم يَخْتَلِفُوا في ذلك، وأنَّ