للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسائر أهل الملل وسائر العقلاء؛ فإنَّ هذا لو كان مقبولًا لأمكن كلَّ أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر، ونفسُ المحتج بالقدر إذا اعتُدِيَ عليه واحتَجَّ المعتدي بالقدر لم يُقبَلْ منه، بل يتناقض" (١). يعني هو يحتج بالقدر لكن إذا احتُجَّ عليه بالقدر لا يقبل ذلك، فلو اعتُدِي عليه بأن ضَرَبه إنسان، فقال: له لِمَ ضربتني؟ فقال: قضاء الله وقدره. فإنه لا يقبل ذلك، وهذا يدل على أن الاحتجاج بالقدر باطلٌ.

[إبليس أول من احتج بالقدر فلم يقبل الله منه]

وتأملوا في حجة إبليس لما أَمَرَه الله بالسجود لآدم فأبى، وقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)} [الأعراف] فاحتج إبليس بالقدر، وقال: يا رب أنت أغويتني، وأنت قدَّرت عليَّ ألَّا أسجد لآدم. فهل قَبِلَ الله حُجَّتَه؟ كلا بل طرده الله من رحمته: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)} [ص] ولم يقبل الله -عز وجل- له عُذرًا، ولو كان الاحتجاج بالقدر سائغًا لقَبِلَ منه ذلك.

[المشركون احتجوا بالقدر ولم يقبل الله منهم]

وتأملوا رحمكم الله: قولَ الله -سبحانه-: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨)} [الأنعام]. أخبرنا الله في هذه الآية أن المشركين احتجُّوا بالقدر على تقصيرهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني وهم واقعون في شركهم {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} يعني كل ما وقعنا فيه من المعاصي هو بقدر الله. وهذه كلمة حقٍّ أُرِيد بها باطل، لكن انظروا هل قَبِلَ اللهُ -عز وجل- منهم حجتهم؟ هؤلاء احتجُّوا بالقدر على شركهم، فلو كان احتجاجُهم مقبولًا لقُبِلَ منهم، ولكن الله يقول: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وسمَّاهم -سبحانه- مشركين مكذبين، فقال:


(١) مجموع الفتاوى (٨/ ١٧٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>