للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هات، فقال: ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة تجري مستوية ليس لها ملَّاح يجريها ولا متعهِّد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا، هذا شيء لا يقبله العقل؟ فقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-: يا سبحان الله! إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجْرٍ فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟! فبكوا جميعًا، وقالوا: صدقت وأغمدوا سيوفهم وتابوا.

[من أدلة الإمام مالك العقلية على وجود الله]

وذكر الرازي -رحمه الله- أيضا: أنَّ الخليفة الرشيد سأل الإمام مالكًا عن وجود الصانع، فاستدلَّ له الإمام مالك باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات. يشير إلى قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (٢٢)} [الروم] وقُرِئ {للعَالَمِينَ} (١). فتأمَّل هذه اللغات المختلفة! تأمل كلَّ واحدة منها! تجد اللغة الواحدة تتضمن لهجات لا تُعَد ولا تحصى، ناهيك عن الأصوات والنغمات، والله -جل وعلا- يعلم كلَّ ذلك، ويدعوه الناسُ بلغات شتى، فيجيب دعوة كل هؤلاء الناس بلغاتهم لا تختلف عليه الألسنة بل هو - سبحانه - يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)} [الشورى]. يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل. ولا يتبرم بإلحاح الملحين.

[من أدلة الإمام الشافعي العقلية على وجود الله]

وذُكِرَ للإمام الشافعي -رحمه الله- مسألة وجود الصانع -جل وعلا- فقال: هذا ورق التوت: طعمه واحد، تأكله الدود، فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد!. وكأنه يشير إلى قول الله -سبحانه وتعالى- في فاتحة سورة الرعد: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ


(١) قرأ العشرة سوى حفص {للعَالَمِينَ} بفتح اللام انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (٤/ ٢٥٤٣/ ط د. أيمن رشدي)

<<  <  ج: ص:  >  >>