للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المسلم والمؤمن، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام … ثم قال: ودلَّ ذلك على أنَّ ذاك الرجل كان مسلمًا ليس منافقًا؛ لأنه تركه من العطاء، ووَكَلَه إلى ما هو فيه من الإسلام، فدلَّ هذا على أنَّ هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادَّعَوا لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه، فأُدِّبُوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عباس -رضي الله عنهما- وإبراهيم النخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأنَّ البخاري (١) -رحمه الله- ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهِرون الإيمان وليسوا كذلك (٢).

[الدلائل على أن الأعراب الذين نزلت فيهم الآية كانوا مسلمين]

هذه الآية المباركة: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} هل نزلت في قوم كانوا مسلمين أو نزلت في المنافقين؟

الجواب: أنَّ هذه الآية -كما ذكر الحافظ ابن كثير- قد اختلف العلماء في نزولها: هل نزلت في قوم كانوا مسلمين دخلوا في الإسلام أم إنهم كانوا منافقين؟

فذكر ابن كثير ما يثبت بالدلائل أنَّ هؤلاء كانوا مسلمين ولم يكونوا منافقين.

وهذا ما رجحه شيخه: شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- وتلميذه شمس الدين ابن القيم -رحمه الله تعالى- (٣).

يقول ابن القيم -رحمه الله-: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} نفيًا للإيمان المطلق، لا لمطلق الإيمان. (أي: أنهم لم يؤمنوا إيمانًا كاملًا، وإنما عندهم مطلق الإيمان، فهم مسلمون). ثم ذكر الوجوه الدالة على أن الآية لنفي الإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان فقال:

منها: أنه أمرهم أو أذِنَ لهم أن يقولوا: {أَسْلَمْنَا} والمنافق لا يقال له ذلك.

ومنها أنه قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} ولم يقل قال المنافقون (٤).


(١) قال في كتاب الإيمان من صحيحه قبل الحديث (٢٧) (١/ ٧٩/ مع الفتح): بَابٌ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ ثم ذكر آية الحجرات.
(٢) تفسير ابن كثير (٧/ ٣٨٩).
(٣) انظر الإيمان (ص ١٩١) لابن تيمية. والرسالة التبوكية لابن القيم ط عالم الفوائد (١/ ٧).
(٤) ولذلك ذهب جمع من أهل التفسير إلى أن هذه الآية وردت في قوم من الأعراب، ولا تعمُّهم جميعًا؛ فإن الله -جل وعلا- ذكر الأعراب في سورة التوبة، وذكر أن منهم قومًا يؤمنون بالله ويؤمنون باليوم الآخر، وأنهم يتقربون إلى الله -سبحانه وتعالى-: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)} [التوبة] فليس الأعراب جميعًا على صفة واحدة؛ ولذلك نزلت هذه الآية في قوم من الأعراب وأحياء منهم سماهم العلماء. قال قتادة -رحمه الله-: " {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} لم تعُمَّ هذه الآية الأعراب، {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ}، ولكنها في طوائف من الأعراب" انظر: تفسير الطبري (٢/ ٣١٦، ٣١٥). وقال مقاتل بن سليمان في تفسيره: "نزلت في أعراب جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إذا مرَّتْ بهم سرية من سرايا النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: آمنَّا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، وكان يومئذ من قال: "لا إله إلا الله" يأمن على نفسه وماله … " إلى آخر كلامه -رحمه الله-. انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (٤/ ٩٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>