للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تعظيم أمر الدماء]

قلت: ولهذا لم يأتِ في النصوص الشرعية في الكبائر مثلما جاء في أمر القتل بغير حق، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (١).

قال الحافظ في الفتح: قَوْلُهُ «فِي فُسْحَةٍ» … أَيْ سَعَةٍ قَوْلُهُ «مِنْ دِينِهِ» كَذَا لِلْأَكْثَرِ … وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ «مِنْ ذَنْبِهِ» فَمَفْهُومُ الْأَوَّلِ أَنْ يَضِيقَ عَلَيْهِ دِينُهُ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى قَتْلِ الْمُؤْمِنِ مُتَعَمِّدًا بِمَا يُتَوَعَّدُ بِهِ الْكَافِرُ وَمَفْهُومُ الثَّانِي أَنَّهُ يَصِيرُ فِي ضِيقٍ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِبْعَادِ الْعَفْوِ عَنْهُ لاستمراره فِي الضّيق الْمَذْكُور وَقَالَ ابن الْعَرَبِيِّ الْفُسْحَةُ فِي الدِّينِ سَعَةُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ ضَاقَتْ لِأَنَّهَا لَا تَفِي بِوِزْرِهِ وَالْفُسْحَةُ فِي الذَّنْبِ قَبُولُهُ الْغُفْرَانَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ ارْتَفَعَ الْقَبُولُ وَحَاصِله أَنه فسره على رَأْي ابن عُمَرَ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ ا. هـ (٢)

ومما يدل على عظمة هذا الذنب: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ النَّاسَ - يَوْمَ عَرَفَةَ -: فَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، … » ثم قال: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (٣).

ثم خطب الناس يوم النحر فأعاد عليهم مقالته هذه في حرمة الدماء: كما في حديث أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- أنه ذَكَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ - أَوْ بِزِمَامِهِ - قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا»، فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا» فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِذِي الحِجَّةِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ،


(١) أخرجه البخاري (٦٨٦٢)
(٢) فتح الباري (١٢/ ١٨٨)
(٣) رواه مسلم (١٢١٨) عن جابر -رضي الله عنه- وفي الباب عن العداء بن خالد رواه أحمد (٢٠٣٣٦) وانظر الحديث الآتي.

<<  <  ج: ص:  >  >>