قيل: أول صلة المغني أن يقال له أحسنت. وحضر جحظة مجلس بعض الكبار مرارا، وكان إذا تغنى يقول له: أحسنت، ولم يكن يخوله شيئا، فقال فيه:
إن تغنيت قال أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدّقيق
استطابة الغناء والمغنّي
سمع رجل غناء طيبا، فقيل له كيف تسمعه؟ فقال: وددت أن جميع أعضائي مسامع أسمعه بها، فأخذ ذلك الشاعر، فقال:
غنّت فلم تبق فيّ جارحة ... إلا تمنّت بأنّها أذن
وقال آخر:
إذا هي غنّت أبهت الناس حسنها ... وأطرق إجلالا لها كل حاذق «١»
وصف ابن شريح مغنيا، فقال: كأنما خلق من كل قلب فيغني لكل ما أحب. وقيل لابن جامع: إنك حسن الإيقاع، فقال: برئت من الإسلام إن كنت ضرطت منذ ثلاثين سنة إلا بالإيقاع، فكيف أخرج منه في الغناء.
وقال الواثق: غناء علوية مثل نقر الطست يبقى في السمع بعد سكوته. قال إبراهيم الموصلي: عشقت جارية فهجرت اللذات من أجلها، فبينا أنا جالس إذ استؤذن عليّ لشيخ معه جارية، فأذنت له فدخل، فإذا هي صاحبتي، فجلس الشيخ وقال: أشرب، فدعوت بالنبيذ فشرب ثلاثة أقداح، وقال لي: غن يا أبا إسحاق فتعجبت من جراءته عليّ، وذلك أن الخليفة كان ينزهني عن ذلك، ثم غنيت، فأخذ العود واندفع يغني:
فما راعني إلا سلام عليكم ... أأدخل قلت أدخل لما أنت واقف
فتزعزعت الحيطان وأغمي عليّ وعلى الحاضرين من الغلمان، فلما أفقت إذا بجارية جالسة والشيخ لم أره، فسألت البواب، فقال: لم أره، وسألت الجارية، فقالت: لا أدري، إلا أنه جاءني على لسانك فلم أجسر على مخالفته، فعلمت أنه أبو مرّة.
وسمع إبراهيم الموصلي غناء مخارق وعلوية، فقال: نعم الفسيلتان أنتما لإبليس في الأرض. وقيل: لم يكن في الإسلام أحسن صوتا من مخارق، غنى يوما في منتزه وقد سنحت ظباء فجاءت إعجابا بغنائه، وتوسط دجلة يوما وغنّى فلم يبق أحد إلّا بكى، وكان أبوه جزّارا فكان ينادي على اللحم في صغره فيفتن الناس بحسن صوته، وكان إذا تنفس يطرب من سمع تنفسه.