للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ يُزَيِّنُوا وَيُوَصِّلُوا إِلَى صُدُورِ النَّاسِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ ذُرِّيَّتَهُ وَيُزَيِّنُوا لَهُمُ الْمَعْصِيَةَ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ عَبِيدِهِ الْبَاقِينَ ظُلْمًا وَجَوْرًا لِأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ، وَالرُّسُلُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُزَيِّنُوا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ طَاعَةَ اللَّهِ وَمَعْرِفَتَهُ كَمَا يُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مَعْصِيَتَهُ بِالْوَسْوَسَةِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ سُلْطَانًا أَنْ يَأْتُوا عَلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمُ الْمَعَاصِيَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حَيْثُ جَعَلَ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ هَذَا السُّلْطَانَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَقَدْ كَفَرَ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَرُدُّ عِلْمُهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ فِيهِ إِلَيْهِ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)} [الأنبياء].

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ سَلَّطَ اللَّهُ الْكُفَّارَ عَلَى الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا، وَسَلَّطَ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى قَتَلُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ وَقَتَلُوا الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ لِيُكْرِمَ أَوْلِيَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ بِهَوَانِ أَعْدَائِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُهْلِكَ الْكُفَّارَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِ بَعْضِ مُلُوكِ الْعِبَادِ كَانَ جَوْرًا عِنْدَ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَيْثُ سَلَّطَ أَعْدَاءهُ عَلَى أَنْصَارِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هَلَكَتِهِمْ مِنْ وَقْتِهِمْ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا جَوْرٌ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ حَيْثُ سَلَّطَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَلِّطْهُمْ وَإِنَّمَا الْكُفَّارُ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَهُ بِقُوَّتِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَنْصُرَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ حَتَّى غَلَبُوهُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَحَبَّ نَصْرَهُ وَتَمْكِينَهُ فَمَنْ ظَنَّ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)} [الأنبياء]، لَا يُشْبِهُ عَدْلُهُ عَدْلَ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يُشْبِهُهُ.

وَخَصْلَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ مَكَّنَ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ فِي الْبِلَادِ، وَأَعَانَهُمْ بِقُوَّةِ الْأَبْدَانِ وَرَشَاقَةِ الْأَجْسَامِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ أَنْ يُعِدُّوا لَهُمُ السِّلَاحَ وَالْقُوَّةَ، وَأَنْ يُحَارِبُوهُمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَالَ هُوَ لِنَفْسِهِ: إِنِّي مَعَكُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ مِنْ وَقْتِهِ بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْهَلَاكِ شَاءَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ، وَبِغَيْرِ أَنْصَارٍ وَلَا سِلَاحٍ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَحْكَامِهِمْ لَكَانَ جَوْرًا وَفَسَادًا أَنْ يُقَوِّيَ أَعْدَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>