للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الله. فطالب الآخرة إذا علم أنها لا تُنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وتَرْكِ ضِدِّها جَدَّ واجتهد في تحقيق الإيمان وكثرة تفاصيله النافعة، واجتهد في كل عمل صالح يُوصِله إلى الآخرة. وهكذا صاحبُ الدنيا صاحبُ الحرث إذا علم أنه لا ينال إلا بحرث وسقي وملاحظة تامة جَدَّ واجتهد في كل وسيلة تُنمِّي حراثته، وتُكمِّلُها، وتدفع عنها الآفات. وهكذا صاحبُ الصناعة إذا علم أن المصنوعات على اختلاف أنواعها ومنافعها لا تحصل إلا بتعلم الصناعة وإتقانها ثم العمل بها جَدَّ في ذلك، ومن أراد حصول الأولاد أو تنمية مواشيه عَمِلَ وسَعَى في ذلك، وهكذا جميع الأمور. وهذا كلُّه يؤكِّدُ ويدُلُّ على أنه لا تعارض بين الإيمان بالقضاء والقدر وبين ما أمرنا الله -عز وجل- به من العمل والأخذ بالأسباب.

ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: إذا تَرَكَ العبدُ ما أُمِرَ به متَّكِلًا على الكتاب كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقيًّا، وكان قولُه ذلك بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب فإن كان الله قضى بالشبع والري حصل وإلَّا لم يحصل أو يقول: لا أجامع امرأتي فإن كان الله قضى لي أن يولد الولد فإنه يكون، وهكذا مَنْ غَلِطَ فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظانًّا أن ذلك من المقامات الخاصة ناظرًا إلى القدر. قال: فكل هؤلاء جاهلون ضالُّون. ويشهد لهذا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (١). -إذًا أَمَرَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- بالحرص على ما ينفع، وأَمَرَ بالاستعانة بالله ونهى عن العجز الذي هو الاتكالُ على القدر ثم أمره إذا أصابه شيء ألَّا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله -سبحانه- فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا


(١) مسلم (٢٦٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>