للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن أبي عثمان - وهو سعيد بن إسماعيل الحِيْرِي شيخ نيسابور (ت: ٢٩٨ هـ) - قال -رحمه الله-: "الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا". وبهذا التفريق يُفهَمُ النكتة في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ» أي: لأن ما كان قَبْلَ القضاء فهو عزم من الإنسان على أنه إذا أصابه شيء فسيرضى، لكنه إذا كان بعد القضاء فهو الرضا الحقيقي لأنه تسليم واستسلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: سأل «الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» لأنَّه حينئذٍ يتبيَّن حقيقة الرِّضا. وأمّا الرِّضا قبله فإنَّما هو عزمٌ على أنَّه يرضى به إذا أصابه، وإنَّما يتحقَّق الرِّضا بعده ا. هـ (١)

وروى أيضًا عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «أَدِّ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ تَكُنْ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ، وَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكَ تَكُنْ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ» (٢). ثم ذكر البيهقي -رحمه الله- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «الرِّضَا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَاللهُ بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ» (٣). ومعنى ذلك أن الإنسان لا ينسب الأشياء إلى غير مسبِّبها، وهو الله فإن العبد إنما يعلم أنَّ كلَّ شيء من الله. يقول -رضي الله عنه-: " الرِّضَا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ " لأنَّ في هذا تعاسةً للإنسان وشقاء له بأن يرضي الناس بسخط الله -جل وعلا-. قال: " وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ " والمعنى: أن الله إذا أنعم عليك بنعمة فاحْمَدِ الله ولا تنسبها لغيره، فإن ذلك كما يقول العلماء باب من أبواب الشرك الخفي (٤). كما في قوله تعالى:


(١) نقله ابن القيم عنه في «مدارج السالكين» (٢/ ٥٥٣ ط عطاءات العلم) وانظر: «مجموع الفتاوى» (١٠/ ٣٧) و «الاستقامة» (٢/ ٨٦ - ٨٧)
(٢) صحيح، رواه هناد في الزهد (٢/ ٥٠١) وأبو داود في الزهد (١٣١) والبيهقي في الشعب (١٩٧، ٨١١٩)
(٣) حسن، رواه ابن الأعرابي في المعجم (١٤٩١) من طريق عطاء الخراساني، والطبراني في المعجم الكبير (١٠/ ٢١٥) رقم (١٠٥١٤) من طريق خيثمة بن عبد الرحمن، وابن أبي الدنيا في الرضا عن الله بقضائه (٩٤) - وعنه البيهقي في الشعب (٢٠٥) من طريق أبي هارون المدني وهو موسى الحناط، وفي اليقين (٢٢) من طريق زبيد، كلهم عن ابن مسعود. وكلها مرسلة عنه. ومجموعها يدل على أن له أصلا.
(٤) انظر: تيسير العزيز الحميد (باب ٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>