للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)} [المطففين]. ثمَّ قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)} [المطففين]، والتسنيم أعلى أشربة الجنَّة. فأخبر سبحانه: أنَّ مزاجَ شراب الأبرار من التسنيم، وأنَّ المقرَّبين يشربون منه بلا مزاج. ولهذا قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)} [المطففين] كما قال في سورة الإنسان سواءً. قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا. وهذا لأنَّ الجزاء وفاقُ العملِ، فكما خلصت أعمالُ المقربين كلُّها للَّه، خلص شرابهم؛ وكما مزَجَ الأبرارُ الطاعاتِ بالمباحات، مُزِجَ لهم شرابُهم. فمن أخلصَ أُخلِصَ شرابُه، ومن مزَج مُزِج شرابُه ا. هـ (١)

وقال -رحمه الله-: أخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين؛ بالكافور في أوَّل السُّورة، والزنجبيل في آخرها، فإنَّ في الكافور من البرد وطيب الرَّائحة، وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرَّائحة، وما يحدث لهم باجتماع الشَّرابين -ومجيء أحدهما على إثر الآخر- حالةً أخرى أكمل وأطيب وألذ من كلٍّ منهما بانفراده، وتعتدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر، وما ألطف موقع ذكر الكافور في أوَّل السورة، والزنجبيل في آخرها، فإنَّ شرابهم مُزِج أوَّلًا بالكافور، وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعدله. والظَّاهرُ أنَّ الكأس الثانية غير الأولى، وأنَّهما نوعان لذيذان من الشراب، أحدهما: مُزِجَ بكافور، والثاني: مُزِجَ بزنجبيل. وأيضًا؛ فإنَّه سبحانه أخبر عن مَزْجِ شرابهم بالكافور وبَرْدِهِ في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف، والإيثار، والصبر، والوفاءِ بجميع الواجبات التي نبَّهَ بوفائهم بأضعفها، وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنَّذْرِ على الوفاءِ بأعلاها، وهو ما أوجبه اللَّهُ عليهم، ولهذا قال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢)} [الإنسان: ١٢]، فإنَّ في الصَّبر من الخشونة وحبس النَّفس عن شهواتها؛ ما اقتضى أنْ يكون في جزائهم من سعة الجنَّة، ونعومة الحريرِ ما يقابل ذلك الحبس والخشونة، وجمع لهم بين النضرة والسرور، هذا جمال


(١) طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم- (١/ ٤٢٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>