للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ويجوز: وغلامًا؛ بالنصب على أن تكون الواو بمعنى: (مع) لكن إن ساعدته الرواية.

وفي رواية مسلم: (وغلام نحوي)؛ أي: مثلي؛ أي: يقاربني في السن، وصرح بكونه من الأنصار الإسماعيلي في روايته، ووقع في رواية: (فأتبعه وأنا غلام) بتقديم الواو، فالجملة حالية، لكن قال الإسماعيلي: إنَّ الصحيح (أنا وغلام) كالمشهور، والغلام: هو الذي طرَّ شاربه، وقيل: هو من حين يولد إلى أن يشبَّ.

وحكى الزمخشري في «أساس البلاغة» : أن الغلام: هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإنْ أجري عليه بعدما صار ملتحيًا اسم الغلام؛ فهو مجاز، وقيل: هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين، والجمع: أغلمة، وغلمة، وغلمان، والأنثى: غلامة، وتصغير الغلمة: أغيلمة على غير مكبرة، لكن قال ابن التياني: لا يقال للأنثى: غلامة إلا في كلام قد ذهب في ألسنة الناس، وتمامه في «عمدة القاري».

ولم يسمِّ الغلام، وقيل: هو ابن مسعود، ويدل عليه ما يأتي في الباب بعده، فيكون سمَّاه غلامًا مجازًا لما مرَّ عن الزمخشري.

وقال النبي الأعظم عليه السلام لابن مسعود بمكة وهو يرعى الغنم: «إنك لغلام معلَّم»، وعلى هذا فقول أنس: (وغلام منَّا)؛ أي: من الصحابة، أو من خدم النبي الأعظم عليه السلام، لكن يبعده ما في رواية مسلم من أن أنسًا وصفه فيها بالصغر.

وأمَّا رواية الإسماعيلي: (من الأنصار)؛ فلعلَّها من تصرِّف الراوي؛ حيث رأى في الرواية (منَّا)، فحملها على القبيلة فرواها بالمعنى، أو لأنَّ إطلاق (أنصار) على جميع الصحابة سائغ، وإن كان خصَّه العرف بالأوس والخزرج.

وقيل: هو أبو هريرة، وسماه أنصاريًّا مجازًا، ويدل له: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: (كان عليه السلام إذا أتى الخلاء؛ أتيته بماء في ركوة، فاستنجى)، ويؤيده ما رواه المؤلف في (ذكر الجن) من حديث أبي هريرة: (أنَّه كان يحمل مع النبيِّ الإداوة لوضوئه وحاجته)، ولا ينافيه ما في رواية مسلم من قول أنس: (أصغرنا)؛ لجواز وصفه بذلك؛ لقرب عهده بالإسلام، لكن يُبعده أن إسلام أبي هريرة بعد بلوغ أنس، وأبو هريرة كبير فكيف يقول أنس: (وغلام نحوي)؟! كما في رواية مسلم السابقة.

وقيل: هو جابر بن عبد الله، فعند مسلم في حديث جابر الطويل: أنه عليه السلام انطلق لحاجته فأتبعه جابر بإداوة لا سيما وهو أنصاري؛ فتأمل.

وجملة قوله: (معنا إداوة) من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر، حال من فاعل (أجيء) وما عطف عليه بدون الواو؛ كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: ٣٦]، ولفظة (مع) اسم معناه: الصحبة؛ أي: في صحبتنا إداوة، وهي متحركة وساكنة، غير أن المتحركة العين تكون اسمًا وحرفًا، والساكنة العين تكون حرفًا لا غير، وهنا يجوز تسكين العين، وكذا في (معكم) وعند اجتماعه بالألف واللام: تفتح العين وتكسر فيقال: معَِ القوم، فتحًا وكسرًا، وقد تسكن وتنون فيقال: جاؤوا معًا، والصحيح: أنها اسم مطلقًا، والإداوة؛ بكسر الهمزة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وقيل: هي المطهرة، والجمع: الإداوى، كذا في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (من) بيانية (ماء) بالمد، والجملة محلها الرفع صفة (إداوة)؛ (يعني)؛ أي: يقصد أنس بقوله هذا (ليستنجي) : اللام: للتعليل للمجيء، وفي رواية: إسقاطها، فالجملة صفة (ماء) أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا (به)؛ أي: بالماء الموضوع بالإداوة، وفاعل (يستنجي) النبي الأعظم عليه السلام، فهذا من كلام أنس رضي الله عنه، والرواية الثالثة للمؤلف الآتية عن قريب تدل على هذا، وبهذا يُرَدُّ على عبد الملك البوني في قوله: (هذا مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس، فيكون مرسلًا فلا حجة فيه)، حكاه عنه ابن التين، وإليه ذهب الكرماني، وكذا يُرَدُّ على بعضهم في قوله: قائل هذا (يعني) هو هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ المؤلف، قاله في «عمدة القاري»، وتبعه العجلوني في «شرحه» وغيره، وأراد بقوله: (بعضهم) : هو ابن حجر العسقلاني، فإنه زعم في «شرحه» أنَّه هشام، وفيه نظر لا يخفى؛ إذ لا دليل يدلُّ على ما قاله، ومن هنا وقع إشكال؛ وهو أنَّه ليس في الحديث مطابقة للترجمة؛ لأنَّ قوله: (فيستنجي به) : ليس من قول أنس، بل من قول الوليد، وقد رواه ابن حرب عن شعبة، ولم يذكر (فيستنجي به)، فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو لوضوئه.

وقال ابن المسيب وابن قانع: الاستنجاء بالماء وضوء النساء؛ لأنَّ الاستنجاء بالأحجار في حقهنَّ متعذر، وأمَّا الرجال فيجمعون بينه وبين الأحجار، وأنكر مالك أن يكون النبي الأعظم عليه السلام استنجى بالماء.

وعن ابن حبيب من المالكية: أنه منع الاستنجاء بالماء؛ لأنَّه مطعوم.

وقيل (١) : لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء، وهو قول الشيعة والزيدية، وهذا كله مردود، فقد احتج الإمام الحافظ الطحاوي على الاستنجاء بالماء بقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: ١٠٨]، وقال الشعبي: لما نزلت هذه الآية؛ قال النبي عليه السلام: «يا أهل قباء؛ ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: ما منَّا أحدٌ إلا وهو يستنجي بالماء».

وذكر المؤلف فيما يأتي عن شعبة بلفظ: (يستنجي بالماء)، ثم ذكر من تابعه على لفظة: (فيستنجي)، وفي رواية الإسماعيلي عن شعبة: (فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء، فيستنجي منها النبي عليه السلام)، وفي رواية المؤلف عن عطاء بن أبي ميمونة: (إذا تبرَّز لحاجته؛ آتيه بماء فيغسل به)، وفي رواية مسلم عن أنس: (فخرج علينا وقد استنجى بالماء) وكذا عند أبي عوانة في «صحيحه» : (فيخرج علينا وقد استنجى بالماء)، فتبيَّن بهذه الروايات أنَّ حكاية الاستنجاء بالماء من قول أنس راوي الحديث، وقد غفل ابن حجر هنا، وبيَّنها في «عمدة القاري»، وما أجابوا به عنه فليس بشيء؛ بل هو خبط وخلط؛ فليحفظ.

ومما يرد على ما قالوه: ما رواه المؤلف من حديث ابن عباس: (أنه عليه السلام دخل الخلاء، فوضعتُ له وضوءًا..)؛ الحديث كما مر، وما رواه مسلم في «صحيحه» لمَّا عد الفطرة عشرة؛ عد منها: (انتقاص الماء)، وفسر بالاستنجاء، وما رواه ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث ابن جرير عن أبيه: (أنه عليه السلام دخل الغيضة، فقضى حاجته، فأتاه جرير بإداوة من ماء، فاستنجى بها، ومسح يده بالتراب)، وما رواه ابن حبان في «صحيحه» عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله عليه السلام خرج من غائط قطُّ إلا مسَّ ماء)، وما رواه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة عن معاذ عن عائشة أنَّها قالت: (مُرْن أزواجكنَّ أن يغسلوا أثر الغائط والبول فإنَّ النبيَّ عليه السلام كان يفعله) وقال: حسنٌ صحيحٌ، فهذه الأحاديث قاضية بالردِّ على مالك وغيره في إنكارهم أنَّه عليه السلام استنجى بالماء.

وقال أحمد ابن حنبل: (لم يصح في الاستنجاء بالماء حديث)، قال: فحديث عائشة؟ قال: (لا يصح؛ لأنَّ غير قتادة لا يرفعه)؛ وهو مردود؛ لأنَّ قتادة بإجماع الحفاظ إذا انفرد برفع حديث؛ يقبل منه؛ لأنَّه إمام حافظ لا سيما وقد اعتضد بغيره من الأحاديث كما علمتَها، ويدل له: ما رواه ابن حبان أيضًا في «صحيحه» من حديث أبي هريرة: (أنَّه عليه السلام قضى حاجته ثم استنجى من تور)، وما رواه ابن ماجه عن عائشة: (أنَّه عليه السلام كان يغسل مقعدته ثلاثًا)، وفي لفظ: «استنجوا بالماء البارد، فإنَّه مصحَّة للبواسير»، وما رواه ابن حبيب عن أبي عيَّاش أنَّه عليه السلام قال: «استنجوا بالماء فإنَّه أطهر وأطيب»، والأحاديث في ذلك كثيرة، وهي قاضية على من أنكر ذلك، فثبت بذلك مذهب الجمهور من السلف والخلف، وقد أجمعت عليه أئمة الفتوى من أهل الأمصار، وقالوا: إنَّ الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر؛ فيقدِّم الحجر أوَّلًا ثم يستعمل الماء، فتخفُّ النجاسة وتقلُّ مباشرتها بيده، ويكون أبلغ في النظافة، فإن أراد الاقتصار على أحدهما؛ فالماء أفضل؛ لكونه يزيل عين النجاسة وأثرها، والحجر يزيل العين دون الأثر، لكنَّه معفو عنه في حقِّ نفسه، وتصحُّ معه الصلاة كسائر النجاسات المعفو عنها.

هذا ملخص ما ذكره الشيخ الإمام بدر الدين العيني في «شرحه»؛ «عمدة القاري» فقد أطال الكلام في هذا المقام، وبيَّنه، ووضحه غاية الإيضاح،


(١) في الأصل: (وقال)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>