للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(أستنجي بها)، ووقع في رواية الإسماعيلي: (أستنجي بها) عوض (أستنفض بها)، والتردد فيه من بعض الرواة؛ فافهم.

(ولا تأتني)؛ بالجزم بحذف حرف العلَّة على النهي، وفي رواية: (ولا تأتيني)؛ بإثباته على النفي، وفي أخرى: (ولا تأتي)، وفي أخرى: (ولا تأتي لي)؛ باللام (بعظم ولا روث) : متعلق بـ (تأتني)، وقيد عليه السلام بهذين؛ لأنَّه خشي أن يفهم أبو هريرة من (أسنتفض بها) أنَّ كلَّ ما يزيل الأثر وينقي كافٍ ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبَّهه في اقتصاره في النهي على العظم والروث على أنَّ ما سواهما يجزئ، ولو اختص بالأحجار، كما قال به الظاهرية وبعض الحنابلة، لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنًى، بل المراد الأحجار وما في معناها من كلِّ طاهر قالع غير محترم، وإنما خص الأحجار بالذكر؛ لأنَّها كانت أكثر الأشياء التي يستنجى بها وجودًا وأقربها تناولًا.

والعلَّة في النهي عن هذين؛ إن كان هو كونهما من طعام الجن -على ما سيجيء عند المؤلف في (المبعث) في هذا الحديث: أنَّ أبا هريرة قال للنبي عليه السلام: ما بال العظم والروث؟ قال: «هما من طعام الجن» -؛ فيلحق بهما سائر المطعومات للآدميين والبهائم بطريق القياس، وكذا المحترمات؛ كخرقة ديباج وقطن، والمراد كل شيء متقوَّم إلا الماء، وهو صادق بما يساوي فلسًا، وكذا أجزاء الآدمي ولو كان كافرًا أو ميتًا، وكذا ماء زمزم، وكذا أوراق الأشجار وأوراق الكتابة، وما كتب عليه شيء من العلم كالحديث والفقه، وما كان آلة لذلك، وكذا كتب الفلسفة، والتوراة، والإنجيل، خلافًا للشافعي.

وإن كان هو النجاسة في الروث؛ فيلحق به كل نجس كالعذرة والحجر الذي استنجى به، وكذا كل متنجس، وفي العظم كونه لزجًا فلا يزيل إزالة تامة، فيلحق به ما في معناه؛ كالزجاج، والفحم، والآجر، والخذف، والشعر، ويؤيده ما رواه الدارقطني وصحَّحه من حديث أبي هريرة: أنَّه عليه السلام نهى أن يستنجى بروث أو بعظم، وقال: «إنَّهما لا يطهِّران»؛ أي: لا يطهِّران طهارة تامة؛ فافهم، وقيل: المعنى: أنَّ العظم لَزِجٌ لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة وينشف البِلَّة، وقيل: إنَّ العظم لا يكاد يَعْرَى من بقية دسم قد علق به، ونوع العظم قد يتأتَّى فيه الأكل لبني آدم؛ لأنَّ الرخو منه الرقيق قد يتمشمش في حالة الرفاهية، والغليظ الصلب منه يدق ويستف عند المجاعة والشدة، وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم، فهذان وجهان، والثالث: كونه طعام الجن، كما سبق، وأمَّا الروث؛ فلأنَّه نجس لا يزيل النجاسة، بل يزيدها، وإمَّا لأنَّه طعام لدوابِّ الجن، وقال أبو نعيم في «دلائل النبوة» : إنَّ الجن سألوا هديةً منه عليه السلام فأعطاهم العظم والروث، فالعظم لهم والروث لدوابهم، فإذن لا يستنجى بهما، وإمَّا لأنَّه طعام للجن أنفسهم، ففي «الدلائل» للحاكم: أنَّه عليه السلام قال لابن مسعود ليلة الجن: «أولئك جن نصيبين، جاؤوني فسألوني الزاد فمتَّعتهم بالعظم والروث»، فقال: وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنَّهم لا يجدون عظمًا إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أُخِذ، ولا وجدوا روثًا إلا وجدوا فيه حبه الذي كان عليه يوم أُكِل، فلا يستنجي أحد بعظم ولا روث».

وفي رواية أبي داود: أنَّهم قالوا: يا محمد؛ انْهَ أمَّتك لا يستنجوا بعظم، أو روث، أو حُمَمَة، فإنَّ الله جعل لنا رزقًا فيها، فنهى عليه السلام عنه، والحُمَمَة؛ بضم الحاء المهملة وفتح الميمين؛ وهي الفحم أو ما احترق من الخشب والعظام ونحوها، وجمعها: حمم، وقوله: (رزقًا)؛ أي: انتفاعًا لهم بالطبخ والدفء والإضاءة، ولا يتأتَّى هذا ما تقرر أن ذلك كان بجعل النبي عليه السلام لهم وهو يقتضي ثبوته لهم قبله، فإن المعنى: جعل لنا فيها رزقًا بسبب جعلك إياها لنا، فإنه عن الله عز وجل، وفي «مسلم» : أنَّ الجن سألوه عليه السلام الزاد، فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم»، فقال عليه السلام: «فلا تستنجوا بهما، فإنَّهما طعام إخوانكم».

قلت: وهل هذا متحقق ولو تقادم عهده وتكررَّ، أو قاصر على قريب العهد الذي لم يطعمه أحد من الجن، والظاهر: الثاني وإن كانت الكراهة في الجميع؛ لأنَّ العلَّة تعتبر في الجنس، وإفادة الأحاديث أنَّ الجن يأكلون، وقيل: رزقهم الشم، ولا خلاف أنَّهم مكلفون، وإنَّما الخلاف في إثابتهم، فروي عن الإمام الأعظم التوقُّف، وروي عنه: أنَّ إثابتهم إجارتهم من العذاب، ويدل له قوله سبحانه وتعالى: {وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: ٣١]، وهو لا يستلزم الإثابة.

وقال الإمام أبو يوسف، والإمام محمد، ومالك، وابن أبي ليلى: لهم ثواب كما عليهم عقاب، واستفيد من حديث مسلم أنَّه لو كان عظم ميتة؛ لا يكره الاستنجاء به؛ فتأمَّل.

قلت: إلَّا عظام بني آدم؛ فإنَّها لا يجوز الاستنجاء بها أصلًا لاحترامه؛ فليحفظ.

والمراد بالروث: اليابس، ففي «منح الغفَّار» : والروث وإن كان نجسًا عندنا؛ لقوله عليه السلام فيها: «ركس أو رجس»، لكن لمَّا كان يابسًا لا ينفصل منه شيء؛ صحَّ الاستنجاء به؛ لأنَّه مخفِّفٌ لما على البدن من النجاسة الرطبة، انتهى، ومثله في «البحر»؛ أي: بخلاف الرطب، فإنه لا يخفِّف النجاسة؛ فلا يصحُّ الاستنجاء به أصلًا، ومثله: العَذِرَةُ؛ وهو الرجيع اليابس، والحجر المستنجى به، قال في «فتح القدير» : ولا يجزئه الاستنجاء بحجر قد استنجى به مرة، إلا أن يكون له حرف آخر لم يستنج به، انتهى، أي: لم تصبه النجاسة.

وقال الشافعي: ويجوز الاستنجاء بكتب الحكميات، والفلسفة، والتوراة والإنجيل إن علم تبدلهما وخلوهما عن اسم معظم.

قلت: وهذا مجازفة عظيمة على الله تعالى؛ لأنَّه تعالى لم يخبرنا بأنَّهم بدَّلوها عن آخرها، وخلوِّ اسم معظَّم منها غير محقَّق، بل الذي شاهدناه في التَّوراة والإنجيل أنَّهما محشوَّان من أسماء الله تعالى والأنبياء عليهم السلام، ولأنَّ غرضهم بتبديل الأحكام لا تبديل الأسماء والدَّعوات، وكونه منسوخًا لا يخرجه عن كونه كلام الله تعالى.

وقال إمامنا الإمام الأعظم: إنَّ للحروف حرمة ولو كانت مقطعة، وقد ذكر القراء: أنَّ الحروف الهجائية قرآن أنزلت على سيدنا هود عليه السلام، كما صرَّح به القسطلاني في «الإشارات»، ومقتضى هذا الحرمة بالمكتوب مطلقًا، وإذا كانت العلَّة في الأبيض كونه آلة للكتابة؛ يؤخذ منها عدم الكراهة فيما لا يصلح لها إذا كان قالعًا للنجاسة غير متقوَّم؛ كورق الهشِّ كما يجوز بالخرق البوالي، وهل إذا كان متقوَّمًا ثم قطع منه قطعة لا قيمة لها بعد القطع يكره الاستنجاء بها أم لا؟ والظاهر: الثاني؛ لأنَّه لم يستنج بمتقوَّم، نعم؛ قطعه لذلكالظاهر: كراهته لو بلا عذر بأن وجد غيره؛ لأنَّ نفس القطع إتلاف، انتهى.

وقال بعض الأفاضل: ينبغي تقييد الكراهة فيما له قيمة بما إذا أدَّى إلى إتلافه، أمَّا لو استنجى به من بول أو مني مثلًا وكان يغسل بعده؛ فلا كراهة إلا إذا كان شيئًا ثمينًا تنقص قيمته بغسله؛ فتأمَّل.

وكذا يكره الاستنجاء بكلِّ ما ينتفع به لإنسي وجنِّي أو دوابِّهما، وظاهره ولو ممِّا لا يتلف بأن كان يمكن غسله، وكذا يكره الاستنجاء بماء الغير وحجره المحرز لو بلا إذنه، ومنه المسبَّل للشرب فقط، وكذا جدار ولو لمسجد

<<  <   >  >>