للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(في الإناء) اختصاص ذلك بإناء الوضوء، لكن يلتحق به إناء الغسل؛ لأنَّه وضوء وزيادة، وكذا باقي الآنية قياسًا، ففيه: دليل على أنَّ الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات؛ لأنَّ النبي الأعظم عليه السلام أمر للقائم من الليل بإفراغ الماء على يديه مرتين أو ثلاثًا؛ لأنَّهم كانوا يتغوطون ويبولون، ولا يستنجون بالماء، وربما كانت أيديهم تصيب المواضع النجسة فينجس، فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول والغائط؛ وهو أغلظ النجاسات؛ كان أولى وأحرى أن يحصل مما دونهما من النجاسات، وهل تغسل اليدان مجتمعين أو متفرقين، فيه اختلاف؛ لما وقع في الاختلاف الوارد في الأحاديث، ففي بعض الطرق: (فغسل يديه مرتين مرتين)، وهو يقتضي الإفراد، وفي بعض طرقه: (فغسل يديه مرتين)، وهو يقتضي الجمع، وقدمنا أنَّ السنة الجمع؛ لأنَّه أكثر في الأحاديث.

فإن قلت: كان ينبغي ألَّا تُبْقى السنة؛ لأنَّهم كانوا يتوضؤون من الأتوار، فلذا أمرهم عليه السلام بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وأمَّا في هذا الزمان؛ فقد تغير ذلك؟

وأجيب: بأن السنة لما وقعت سنة في الابتداء؛ أبقيت ودامت وإن لم يبق ذلك المعنى؛ لأنَّ الأحكام إنَّما تحتاج إلى أسبابها حقيقة في ابتداء وجودها لا في بقائها؛ لأنَّ الأسباب تبقى حكمًا وإن لم تبق حقيقة؛ لأنَّ للشارع ولاية الإيجاد والإعدام، فجعلت الآنيات الشرعية بمنزلة الجواهر في بقائها حكمًا، وهذا كالرَّمَل في الحج وغيره؛ فليحفظ.

وقدمنا أن قوله: (في الإناء) محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة؛ كالكوز، أو كبيرة؛ كالحُب، أو معه آنية صغيرة، أمَّا إذا كانت الآنية كبيرة وليست معه آنية صغيرة؛ فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة، حتى لو أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء دون الكف، ويرفع الماء من الحُب ويصب على يده اليمنى، ويدلك الأصابع بعضها في بعض، يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يدخل يده اليمنى بالغًا ما بلغ في الإناء إن شاء، وهذا اختيار علمائنا، وقال النووي: (وإذا كان الماء في الإناء وكان كبيرًا بحيث لا يمكن الصب منه، وليس معه إناء صغير يغترف به؛ فطريقه أن يأخذ الماء بفمه، ثم يغسل به كفيه، أو يأخذه بطرف ثوبه النظيف، أو يستعين بغيره).

قلت: وما ذكره علماؤنا الأعلام أحسن من وجوه، ويلزم على ما ذكره النووي أنَّه لو عجز عن أخذه بفمه بأن كانت أسنانه مقلوعة ولم يعتمد على طهارة ثوبه، ولم يجد من يستعين به ماذا يفعل؟ على أنَّه في أخذه الماء بفمه عسر وحرج وهو مدفوع بالنص، وأيضًا فإنَّه يصير الماء مستعملًا؛ لأنَّه قد ارتفع الحدث عن فمه، وأخذه الماء بطرف ثوبه فيه إتلاف الثوب، وهو منهي عنه؛ لأنَّه إسراف، والاستعانة بغيره فيها عدم التواضع للعبادة، فما قاله علماؤنا خال عن هذه المنهيات؛ فافهم.

نعم؛ لو كانت يداه متنجستين؛ فإنَّه يفعل كما قاله النووي، وقد صرح به في «المضمرات» و «منهل الطلاب» حيث قالا: (فإنَّه يأمر غيره أن يغترف بيديه ليصب على يديه ليغسلهما، وإن لم يجد؛ يرسل في الماء منديلًا، ويأخذ طرفه بيده، ثم يخرجه من البئر، فيغسل يديه بالماء الذي يتقاطر ثلاثًا، فإذا لم يجد؛ يرفع الماء بفمه فيغسل يديه، وإن لم يقدر؛ فإنَّه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه) انتهى.

وإنما أبحنا له الاستعانة بغيره وأخذه الماء بفيه، وأخذه بطرف ثوبه؛ لأنَّ غسل يديه من النجاسة المحققة فرض بالإجماع، فلو أدخل بعض إصبعه؛ تنجس الماء، وفي مسألة رفع الماء بفيه اختلاف، والصحيح: أنَّه يصير مستعملًا، وهو مزيل للخبث، كما في «البحر»؛ فليحفظ.

(فإن أحدكم) : الفاء للتعليل؛ أي: فهو تعليل للأمر بغسل اليد، وهذا خطاب للعقلاء البالغين المسلمين، فإن كان القائم من النوم صبيًّا، أو مجنونًا، أو كافرًا؛ فذكر في «المغني» : أن فيه وجهين؛ أحدهما: أنَّه كالمسلم البالغ العاقل، والثاني: أنَّه لا يؤثر غمسه شيئًا؛ لأنَّ المنع من الغمس إنَّما يثبت بالخطاب، ولا خطاب في حق هؤلاء، وقال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة؛ لأنَّ الشارع إذا ذكر حكمًا وعقبه بعلة؛ دل على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات: «فإنَّه يبعث ملبيًا» بعد نهيهم عن تطييبه نبه على علة النهي، وهي كونه محرمًا.

(لا يدري أين) : وهي للسؤال عن المكان، بنيت لتضمنها حرف الاستفهام (باتت يده)؛ أي: من جسده، والمراد بها الجنس، وأن يكون الغسل ثلاثًا لرواية مسلم، وأبي داود، وغيرهما: (فليغسلها ثلاثًا)، وفي رواية: (ثلاث مرات)، فيستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثًا؛ لأنَّه إذا أمر به في المتوهمة؛ ففي المحققة أولى، ولم يرد شيء فوق الثلاث إلا في ولوغ الكلب، وسيجيء أنَّه عليه السلام أوجب فيه الثلاث، وخير فيما زاد، ويستفاد أيضًا منه أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل، ولا يؤثر فيها الرش؛ لأنَّه عليه السلام أمر بالغسل، ولم يأمر بالرش، ولأنَّ المقصود إزالة عين النجاسة، وهو لا يكون إلا بالغسل، وبالرش تتضمخ النجاسة وتزداد، فلا فائدة فيه، كما لا يخفى على أولي الألباب.

والمراد باليد هنا: الكف إلى الكوع دون ما زاد عليها اتفاقًا، وقال الشافعي: معنى «لا يدري أين باتت يده» : إن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم؛ عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس، أو على بثرة أو قذر، وتعقبه الباجي: بأن ما قاله يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم؛ لجواز ذلك عليه.

وأجيب عنه: بأنَّه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل، وردَّ: بأن اليد التي منصوبة في الهوى إذا عرقت؛ فالمحل المستتر يعرق بالطريق الأولى على ما لا يخفى، فلا وجه حينئذٍ لاختصاص اليد بذلك، وقول من قال: إنَّه مختصٌّ بالمحلِّ؛ ينافيه ما رواه ابن خزيمة وغيره في هذا الحديث، وقال في آخره: (أين باتت يده منه)، وأصله في مسلم دون قوله: (منه)، وذكرها ابن منده، وتمامه في «عمدة القاري».

واختلف في أن علة الأمر التنجس أو التعبد؛ فالجمهور على أن ذلك لاحتمال النجاسة، ومقتضاه إلحاق من شك في ذلك ولو كان مستيقظًا، ويفهم منه أن من درىأين باتت يده؛ كمن لفَّ عليها خرقة مثلًا فاستيقظ وهي على حالها؛ فلا كراهة وإن كان غُسلها مستحبًّا، كما في المستيقظ، وقال مالك: إن ذلك للتعبد؛ فعلى قوله لا يفرق بين شاك ومتيقن.

وقوله: (فليغسل يده) : يتناول ما إذا كانت يده مطلقة أو مشدودة بشيء أو جراب، أو كون النائم عليه سراويل أو لم يكن؛ لعموم اللفظ؛ فتأمل.

وفي الحديث: استحباب استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استهجان، ولهذا قال عليه السلام: «فإنَّه لا يدري أين باتت يده»، ولم يقل: فلعلَّ يده وقعت على دبره، أو ذكره، أو نجاسة، أو غير ذلك، وإن كان هذا معنى قوله عليه السلام، وهذا إذا علم أنَّ السامع يفهم بالكناية المقصودة، فإن لم يكن كذلك؛ فلا بد من التصريح؛ لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحًا.

ويستفاد من الحديث: أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإن لم تغيره، وإلَّا؛ لا يكون للنهي فائدة.

وفيه: أن الماء يتنجس بورود النجاسة عليه، وهو بالإجماع، وأمَّا ورود الماء على النجاسة؛ ففيه خلاف قرره في «عمدة القاري»، وينبغي للسامع عن النَّبيِّ الأعظم عليه السلام شيئًا من قول أو فعل أن يتلقاه بالقبول وعدم الإنكار، ففي «شرح مسلم» : أن بعض المبتدعة لما سمع هذا الحديث؛ قال متهكمًا: أنا أدري أين باتت يدي، باتت في الفراش، فأصبح وقد دخلت يده في دبره إلى ذراعه، وقيل: إنَّ رجلًا كان يسيء الاعتقاد في أهل الخير والصلاح، وله ابن يعتقدهم، فجاء ولده من

<<  <   >  >>