للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قيام الأخص مقام الأعم؛ لأنَّ الخاص له دلالة على العام اللازم؛ كلفظ: (الإنسان) له دلالة على مفهوم الحيوان بالتضمن؛ لأنَّه جزء مفهومه، وكذا له دلالة على مفهوم الماشي بالقوة بالالتزام لكونه خارجًا عن معنى الإنسان لازمًا له فعلى هذا يجوز أن يذكر الشرب ويراد به الولوغ، وادعى ابن عبد البر أن لفظه: (شرب) لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ: (ولغ)، وليس كذلك؛ فقد رواه ابن خزيمة، وابن المنذر من طريقين بلفظ: (إذا شرب (١))، وكذا أخرجه مسلم وغيره، وكذا مالك، وأخرجه أبو عبيد والدارقطني في «الموطأ» من طريق أبي [عليٍّ] الحنفي؛ كلهم بلفظ: (إذا ولغ)، والولوغ: هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه، زاد ابن درستويه: شرب أو لم يشرب، وقيل: إن كان غير مائع؛ يقال: لعقه، وقال الإمام المطرزي في «المغرب» : فإن كان فارغًا؛ يقال: لحسه، ومفهوم الشرط يقتضي قصر الحكم على الولوغ، وإذا قلنا: الأمر بالغسل للتنجس؛ يتعدى الحكم إلى اللحس أيضًا، والغالب الولوغ، ولا يصح إلحاق يده وبقية أعضائه بفمه؛ لأنَّ الحكم بالتنجس لأجل اختلاط لعابه النجس في الماء والمائع والآنية، وبقية أعضائه لا لعاب فيها، فافترقا، وقاس الشافعي أعضاءه على فمه، وهو قياس مع الفارق، وخص مالك الغسل بالولوغ؛ لأنَّ الكلب عنده طاهر، فالأمر بالغسل عنده للتعبُّد لا للنجاسة، وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ الحديث يَحتَمل أن يكون الأمر للنجاسة، ويَحتَمل أن يكون للتعبد، ولكن رجح الأول بما رواه مسلم وغيره: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب»، وروايته أيضًا: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليريقه، ثم ليغسله سبع مرات»، ولو كان سؤره طاهرًا؛ لما أمر عليه السلام بإراقته وغسله، فدلَّ على نجاسته، ولأنَّ الطهارة إمَّا للتعبد، أو الحدث، أو الخبث، وهي منتفية عن الإناء، فيتعين الخبث؛ فافهم.

وقصد المؤلف بيان مذاهب النَّاس، فبيَّن في هذا الباب مسألتين؛ أولاهما: الماء الذي يغسل به الشعر، والثانية: سؤر الكلاب، وهو الظاهر، ويدل عليه أنه قال في المسألة الثانية: (وسؤر الكلاب) واقتصر على هذه اللفظة، ولم يقل: وطهارة سؤر الكلاب.

(في) وفي رواية: (من) (إناء أحدكم؛ فليغسله سبعًا)؛ أي: سبع مرات، وفي رواية: (سبع مرات أولاهنَّ بالتراب)، وفي أخرى: (أولاهنَّ أو أخراهنَّ)، وفي أخرى: (سبع مرات وعفِّروه الثامنة)، والأمر في ذلك للاستحباب لا للوجوب، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، ويدلَّ عليه أنَّ أبا هريرة الذي روى السبع رُوِيَ عنه غَسْل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا فعلًا وقولًا مرفوعًا وموقوفًا من طريقين؛ الأول: أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء؛ فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات)، قال الشيخ تقي الدين: (هذا إسناد صحيح)، والطريق الثاني أخرجه ابن عديٍّ في «الكامل» عن الحسين بن علي الكرابيسي قال: حدثنا إسحاق الأزرق: حدثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليهرقه وليغسله ثلاث مرات»، ثم أخرجه عن عمر بن شيبة، وعبد الملك أخرج له مسلم في «صحيحه»، وقال أحمد والثوري: إنَّه من الحفاظ، ووثَّقه الثوري، وسماه الميزان، والكرابيسي وثَّقه أحمد وغيره، فثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنَّ أبا هريرة هو راوي السبع، والراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها؛ لا تبقى حجة (٢)؛ لأنَّ الصحابي لا يحل له أن يسمع من النبي الأعظم عليه السلام شيئًا ويفتي أو يعمل بخلافه؛ لأنَّ ذلك يسقط عدالته ولا تقبل روايته، والواجب علينا تحسين الظنِّ بالصحابي لا سيما أبو هريرة مهما أمكن، فدلَّ ذلك على نسخ ما رواه من السبع، ويدلُّ عليه ما رواه الحافظ الطَّحاوي بإسناده عن ابن سيرين: أنَّه كان إذا حدَّث عن أبي هريرة؛ فقيل له: عن النبي عليه السلام؟ فقال: كلُّ حديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام، على أن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يعتد بالسبع، فيكون الولوغ من باب أولى، على أنَّ تغليظ الحكم في ولوغ الكلب إما للتعبد، أو محمول على من غلب على ظنه أنَّ نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وإمَّا أنَّه أمرهم بالثلاث، فلم ينتبهوا، فغلَّظ عليهم بذلك.

ويحتمل أنَّ الأمر بالسبع كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلمَّا نهى عن قتلها؛ نسخ الأمر بالغسل سبعًا، واعترض بأنَّ الأمر بالقتل كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخِّر عنه؛ لأنَّه من رواية أبي هريرة، وعبد الله بن مغفل، وكان إسلامهما سنة سبع.

وأجيب: بأن الأمر بقتل الكلاب في أوائل الهجرة يحتاج إلى دليل قطعي، على أنَّه قد ثبت أن ذلك كان بعد الأمر بقتلها، ولئن سلَّمناه؛ فكان يمكن أن يكون أبو هريرة وعبد الله قد سمعا ذلك من صحابي أنَّه أخبرهما عن النبي عليه السلام لاعتمادهما على صدق المرويِّ عنه؛ لأنَّ الصحابة كلَّهم عدول.

وقيل: إنَّه وقع الإجماع على خلافه في العمل، واعترض: بأنه قد ثبت القول بذلك عن أحمد والحسن.

وأجيب: بأنَّ مخالفة الأقل لا تمنع مخالفة الإجماع، وهو مذهب الجمهور من الأصوليين، وما روي عن الشافعي أنَّه قال: حديث ابن مغفل لم أقف على صحته؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من عدم ثبوته عنده ترك العمل به عند غيره، على أنه أجمع الحفاظ على صحته، ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، فإنَّه زاد فيه: (وعفِّروه الثامنة بالتراب)، والزائد أولى من الناقص، فكان ينبغي للمخالف أن يقول: لا يطهر إلَّا بأن يُغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب؛ ليأخذ بالحديثين جميعًا، فإن ترك حديث ابن مغفل؛ فقد لزمه ما لزم خصمه في ترك السبع، ومع هذا لم يأخذ بالتعفير الثابت في الصحيح مطلقًا، قيل: إنَّه منسوخ.

فإن اعترض بما قاله البيهقي أنَّ أبا هريرة أحفظ؛ فروايته أولى.

أجيب: بالمنع، بل رواية ابن مغفل أولى؛ لأنَّه أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب، وقال الحسن البصري: إنَّه من أصحاب الشجرة، وهو أفقه من أبي هريرة، والأخذ بروايته أحوط، ولهذا ذهب الحسن البصري إليه؛ فافهم.

وفي الحديث نجاسة الإناء، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين الكلب البدوي والحضري؛ لعموم اللفظ.

وقال الكرماني: (في الحديث دليل على تحريم بيع الكلاب).

قلت: وهو مردود؛ لأنَّه منتفع به حراسة واصطيادًا، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: ٤]؛ فيصح بيعه عندنا، وما روي: (أنَّه نهى عليه السلام عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن)؛ فإنما هذا كان في زمن كان النبي الأعظم عليه السلام أمر فيه بقتل الكلاب وكان الانتفاع بها يومئذٍ محرمًا، ثم بعد ذلك قد رخص في الانتفاع بها، وروى الحافظ


(١) في الأصل: (ولغ)، والمثبت من «العمدة».
(٢) في الأصل: (حجته)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>