للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

التي في هذا الباب ترد على أبي حنيفة؛ لأنَّ النجس لا يُتَبَرَّكُ به)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: قصد هذا القائل التشنيع على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وسيدهم بهذا الرد البعيد؛ لأنَّه ليس في الأحاديث المذكورة ما يدل صريحًا على أنَّ المراد من فضل وضوئه: هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، وكذا في قوله: «كانوا يقتتلون على وضوئه»، وكذا في قوله: «فشربت من وضوئه»، بل اللفظ يدل على أنَّه الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، والمعنيان محتملان، لكن يتعين الثاني بكون ظاهر اللفظ يدل عليه، وهي القرينة، والأول لا دليل يدل عليه، ولئن سلَّمنا أن المراد: هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة؛ فإمامنا المعظم الإمام الأعظم لا يُنْكِرُ هذا، ولا يقول بنجاسة ذلك حاشاه رضي الله تعالى عنه، وكيف يتصور أن يقول بهذا، وهو يقول بطهارة بوله الشريف، وسائر فضلاته الشريفة؟! ومع هذا قد قلنا: لم يصح عن الإمام الأعظم تنجيس الماء المستعمل، ولا فتوى الأئمة الحنفية عليه، فانقطع شغب المعاند) انتهى بزيادة من العبد الضعيف.

وقد زاد في الشطرنج جملًا ابن المنذر حيث قال: (وفي إجماع أهل العلم على أنَّ البلل الباقي على أعضاء المتوضِّئ وما قطر منه على ثيابه دليل قوي على طهارة الماء المستعمل)، وردَّه في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: المثل: «حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء»، والماء الباقي على أعضاء المتوضئ لا خلاف لأحد في طهارته؛ لأنَّ من يقول بعدم طهارته إنَّما يقول بالانفصال عن العضو، بل عند بعضهم: الانفصال والاستقرار في مكان، وأمَّا الذي قطر منه على ثيابه؛ فإنما سقط حكمه؛ للضرورة؛ لتعذر الاحتراز عنه)؛ فافهم، والله أعلم.

ثم قال ابن حجر في «الانتقاض» معترضًا على اعتراض صاحب «عمدة القاري» عليه حيث قال: (الرجوع إلى الحقِّ خير من التمادي في الباطل، والبخاري لم يُعيِّنْ من قال بذلك، فردُّهُ متوجهٌ على من قال به كائنًا من كان) انتهى.

قلت: انظروا وتعجبوا من كلام هذا القائل، فإن قوله: (الرجوع إلى الحق...) إلخ؛ دليل على أنه قد تمادى في الباطل، ولم يرجع إلى الحقِّ، وقد قال في التنزيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: ٤٤]، وقوله: (والبخاري...) إلخ، نعم؛ بل هذا القائل قد عين من قال بذلك، ولم يُعْهَد سوء أدب من البخاريِّ على أحد فضلًا على الإمام الأعظم رئيس المجتهدين التابعي الجليل الذي هو أفضل من مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وقد عهدنا سوء الأدب من هذا القائل كثيرًا حتى مع النبي عليه السلام، حيث قالت الشافعية: (إن شعره عليه السلام نجس) حاشاه عليه السلام من ذلك الافتراء والجرأة على الله ورسوله، ولا ريب أنهم قد دخلوا في عموم الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ} ... ؛ الآية [الأحزاب: ٥٧]، ولا ريب أن النقي لا يغيره مقل الذباب، وأن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ولله درُّ القائل:

يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيكْلِمَهُ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ

والمرء لا يرجع عن طبعه ولو طرش الدم من حلقه، وإنما منشأ هذا التعصب، والتعنت، وعدم الحياء، وعدم الأدب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(ثم قمت خلف ظهره) عليه السلام؛ أي: في الصلاة، ولعلها كانت صلاة الوضوء النافلة، وإنما تَرَكَهُ عليه السلام خلف ظهره، ولم يجذبه إلى يمينه كما فعل في ابن عباس، ولعله إنَّما تركه؛ لبيان الجواز، أولحكمة أخرى، وهي رؤياه الخاتم الشريف، ولذا قال: (فنظرت إلى خاتِم النبوة)؛ بكسر التاء؛ أي: فاعل الختم، وهو الإتمام والبلوغ إلى الآخر، وبفتح التاء؛ بمعنى: الطابَع؛ أي: آلة الطبع، ومعناه: الشيء الذي هو دليل على أنَّه لا نبي بعده عليه السلام، وقال البيضاوي: (خاتم النبوة: أثر ناتئ بين كتفيه، نُعِت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة يُعْلَمُ بها أنَّه النبي عليه السلام، وصيانة لنبوته عن تَطَرُّقِ القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم) انتهى، واعترض: بأنَّ ما ذكره أولًا تفسير لحقيقة الخاتم، لكن يحتاج إلى الفرق بين فاعل الختم والطابع من حيث الماصدق، وفرقه المذكور ينافيه قول أهل اللغة: (الفتح والكسر في الخاتم كالطابع لغتان بمعنًى واحد)؛ فتأمل.

(بين كتفيه)؛ تثنية كتف، فيه لغات (فخذ) سوى الإِتْباع، وفي رواية أحمد من حديث عبد الله بن سرجس: (ورأيت خاتم النبوة في نُغْضِ كتفه اليسرى، كأنه جُمْع، فيه خِيْلان سود، كأنها التآليل)، و (النغْض)؛ بضم النُّون وفتحها، وسكون الغين المعجمة، آخره ضاد معجمة؛ وهو أعلى الكتف، أو هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقوله: (جُمْع)؛ بضم الجيم وسكون الميم معناه: مثل جمع الكف، وهو أن يجمعَ الأصابع ويضمَّها، و (الخِيْلان)؛ بكسر الخاء المعجمة وسكون الياء: جمع خال، و (التآليل) جمع تؤلول، وهو الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها، ولا ينافي هذا ما هنا من أنه بين كتفيه؛ لجواز أنه أقرب إلى الجانب الأيسر، وحكمة جعله على نغضه؛ لأنَّه يقال: هو الموضع الذي يدخل منه الشيطان إلى باطن الإنسان، فكان هذا عصمة له عليه السلام من الشيطان، وقال القاضي عياض: (هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه)، واعترضه النووي: (بأن هذا باطل؛ لأنَّ شق الملكين إنَّما كان في صدره)، وأجيب: بأن قوله: (بين كتفيه) ليس متعلقًا بالشق، كما زعمه النووي، بل متعلق بأثر الختم، وعليه فليس ما قاله القاضي بباطل، وذلك لأنَّه لما وقع الشق وخيط حتى التأم، ووقع الختم بين كتفيه؛ كان ذلك أثر الختم؛ فتأمل.

واختلف في الخاتم هل وُلِد به أم لا؟ فقيل: وُلِد به، كما في حديث... (١)، وقيل: إنه وُضِع بعد ميلاده، ويدل له ما في «الدلائل» لأبي نعيم: (أنه عليه السلام لما وُلِد؛ ذكرت أمه: أن الملَك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج خرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم، فضرب به على كتفه كالبيضة المكنونة تُضيء كالزهرة)، فهذا صريح في وضعه بعد ولادته؛ فافهم.

(مِثلَ)؛ بكسر الميم وفتح اللام؛ منصوب على الحال، وقول القسطلاني: (مفعول «نظرت») فيه نظر، كما لا يخفى، وفي روايةٍ بالجرِّ على أنَّه نعت أو بدل من المجرور؛ لأنَّه اسم فاعل بحسب الأصل، فلا يتعرف بالإضافة لـ (مِثل) بخلافه على فتحها، فإنه يتعرف، فلا يصح نعته بـ (مثل)، ولذا اعترض الدماميني على الزركشي، في كون الجر نعتًا لـ (خاتم)، لكن إطلاقه الاعتراض ليس على ما ينبغي، وفي روايةٍ بالرفع على تقدير مبتدأ؛ أي: هو مثلُ (زِرٍّ)؛ بكسر الزاي المعجمة وتشديد الرَّاء المهملة: واحد أزرار القميص، ويقال للرجل الحسن الرعية للإبل: إنه لزر من أزرارها، كذا في «الصحاح»، وفي «القاموس» : (الزر؛ بالكسر: الذي يوضع في القميص، والجمع: أزرار، وزرور، وعظمٌ تحت القلب وقوامه، والنقرةُتدور (٢) فيها وابلة الكتف، وطرفُ الورك في النقرة، وخشبةٌ من أخشاب الخباء، وحدُّ السيف، وزر الدين: قوامه، وبالفتح: شد الأزرار، والطرد، والطعن، والنتف، والعض، وتضييق العينين، والجمع الشديد، ونفض المتاع، وزُرزُر (٣) بن صهيب؛ بالضم، مُحَدِّث) انتهى.

قال في «عمدة القاري» كـ «الكرماني» : (روي أيضًا بتقديم الرَّاء على الزاي، ويكون المراد منه: البيض، يقال: أرَزَّت الجرادة؛ بفتح الرَّاء وتشديد الزاي: إذا كبست ذنبها في الأرض؛ فباضت) انتهى؛ فافهم.

(الحَجَلَة)؛ بالحاء المهملة والجيم واللام مفتوحات، بعدها تاء، واحدة الحجال؛ وهي بيوت تُزَيَّنُ بالثياب والأسرة والستور، لها عرًى وأزرار، وقال ابن الأثير: (الحجلة؛ بالتحريك: بيت كالقبة يُسْتَر بالثياب، ويكون له أزرار كبار، ويجمع على حجال، وقيل: المراد بالحجلة: الطير، وهي التي تسمى القبجة، وتسمى الأنثى حجلة، والذكر يعقوب، وزرها بيضها، ويؤيد هذا أن في حديث آخر: «مثل بيضة الحمامة»، وجمع الحجلة: حَجَل؛ بفتحتين، وحِجْلى؛ بكسر الحاء وسكون الجيم، ولم يجئ على «فِعلى» -بالكسر- إلا هذا وظِربى)، وقال في «عمدة القاري» نقلًا عن محمد بن عبد الله شيخ المؤلف: (إنَّ الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه، وفي بعض نسخ المغاربة: «الحُجْلة» بضم الحاء المهملة وسكون الجيم) انتهى.

ثم قال في «عمدة القاري» : (وجاءت في صفة خاتم


(١) أخلى بياضًا في الأصل.
(٢) في الأصل: (يزرر)، والمثبت من «القاموس».
(٣) في الأصل: (وزر)، والمثبت من «القاموس».

<<  <   >  >>