للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مُنْكِرَ المسح ضالٌّ مبتدع ما روي عن الإمام الأعظم: أنَّه سُئِلَ عن مذهب أهل السنة والجماعة، فقال: هو أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين)، وقال الإمام الكرخي: قال الإمام الأعظم: أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين؛ لأنَّ الآثار التي جاءت فيه في حيِّز التواتر، وقال الإمام أبو يوسف: خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به؛ لشهرته، وعلى قياس قوله؛ يكفر جاحده؛ لأنَّ المشهور عنده بمنزلة المتواتر، وعلى قول الإمام الأعظم؛ لا يكفر؛ لأنَّه بمنزلة الآحاد عنده.

وقال البيهقي: (وإنَّما جاء كراهة ذلك عن علي، وابن عباس، وعائشة، فأمَّا الرواية عن علي؛ فلم يرد عنه بإسناد موصول يثبت مثله، وأما عائشة؛ فثبت عنها أنَّها أحالت ذلك على علي رضي الله عنهما، وأمَّا ابن عباس؛ فإنَّما كرهه حين لم يثبت مسحه عليه السلام بعد نزول «المائدة»، فلما ثبت؛ رجع إليه)، وقال في «الموضوعات» : (إنكار عائشة غير ثابت عنها)، وقال الكاساني: وأمَّا الرواية عن ابن عباس؛ فلم تصح؛ لأنَّ مداره على عكرمة، وروي أنَّه لما بلغ عطاء؛ قال: كذب عكرمة، وروي عن عطاء أنَّه قال: (كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين، فلم يمت حتى تابعهم).

وفي «المغني» لابن قدامة: قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء أفضل؛ يعني: من الغَسْل؛ لأنَّه عليه السلام وأصحابه إنَّما طلبوا الفضل، وقد تكاثرت الروايات بالطرق المتعددة من الصحابة الذين كانوا لا يفارقون النبي الأعظم عليه السلام في الحضر ولا في السفر، فجرى ذلك مجرى التواتر، وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك، فسقط بهذا قول من يقول: آية الوضوء مدنية، والمسح منسوخ بها؛ لأنَّه متقدم؛ لأنَّ غزوة تبوك آخر غزواته عليه السلام، و «المائدة» نزلت قبلها، وممَّا يدل على أنَّ المسح غير منسوخ حديث جرير: (أنَّه رأى النبي الأعظم عليه السلام مسح على الخفين، وهو أسلم بعد «المائدة»، وكان القوم يعجبهم ذلك)، وأيضًا فإن حديث المغيرة في المسح كان في السفر، فيعجبهم استعمال جرير له في الحضر، وقال النووي: (لما كان إسلام جرير متأخرًا؛ علمنا أن حديثه يُعْمَلُ به، وهو مبين أن المراد بآية «المائدة» غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية)، وقال الخطابي: (فيه دليل: على أنَّهم كانوا يرون نسخ القرآن بالسنة)، وفي «الهداية» : (الأخبار فيه مستفيضة حتى أنَّ من لم يره؛ كان مبتدعًا، لكن من رآه، ثم لم يمسح أخذًا بالعزيمة؛ كان مأجورًا)، وفي «جامع الفتاوى» : المسح على الخفين أفضل من الغسل؛ أخذًا بالأيسر، وقيل: الغسل أفضل؛ أخذًا بالعزيمة والمشقة، وفي «المجتبى» عن الإمام الترجماني: أنَّ المسح أفضل من الغسل؛ أخذًا بالأيسر، وما ذكره في «الهداية» من أنَّ الغسل أفضل صرَّح به شيخ الإسلام في «المبسوط» لكن بشرط أن يرى جوازه، قال في «التوشيح» : وهذا مذهبنا، وهو الصحيح، كما في «الأجناس»، حتى أنَّ الباني إذا نزع خفيه وغسل رجليه قبل تمام مدة المسح؛ يمضي عند الإمام محمد، وهو رواية عن الإمام الأعظم، ولو لم يكن الغسل أفضل؛ لبطل البناء، انتهى.

وقال الشيخ أبو الحسن الرستغفني: (إنَّ المسح أفضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول الشعبي، وحماد، والحاكم، والشافعي، وإسحاق، إمَّا لنفي التهمة عن نفسه؛ لأنَّ الروافض والخوارج لا يرونه، وإمَّا للعمل بقراءة النصب والجر) انتهى.

فعلى هذا ينبغي أن يقال: إنَّ من يعتقد جوازه وليس بحضرة من يتهمه؛ فالغسل أفضل، وإن كان بحضرة من لم يره؛ فالمسح أفضل رغمًا له، كذا في «منهل الطلاب»، واختلفت الرواية عن مالك؛ فروي عنه: (أنه لا يجوز المسح أصلًا)، كما هو قول الروافض والخوارج، وفي رواية: (أنه يجوز لكنه مكروه)، والمشهور: أنه يجوز أبدًا غير مؤقت، وفي رواية: (أنه يجوز بتوقيت)، وفي رواية: (يجوز للمسافر دون المقيم)، وفي رواية: بالعكس، وقال ابن المنذر: الغسل والمسح سواء، وهو رواية عن أحمد، وقال أصحاب الشافعي: الغسل أفضل من المسح بشرط ألَّا يُترَك المسح رغبة عن السنة، ولا شك في جوازه، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا من الفقهاء روي عنه إنكار المسح إلا مالكًا، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك، واعترضه في «عمدة القاري» : بأن فيه نظر؛ لما في «مصنف ابن أبي شيبة» : من أنَّ مجاهدًاوسعيد بن جبير وعكرمة كرهوه، وكذا حكى أبو الحسن النسابة عن محمد بن علي بن الحسن، وأبي إسحاق السبيعي، وقيس بن الربيع، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن أبي داود، والخوارج، والروافض، وقال الميموني عن أحمد: فيه سبعة وثلاثون صحابيًّا، وفي رواية الحسن بن محمد عنه: أربعون، وكذا قاله البزار في «مسنده»، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيًّا، وفي «الأشراف» : عن الحسن حدثني به سبعون صحابيًّا، وقال أبو عمر (١) بن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، وقد أشرنا إلى رواية (٢) ستة وخمسين من الصحابة في شرحنا لـ «معاني الآثار» للحافظ الطحاوي، فمن أراد الوقوف عليه؛ فليرجع إليه، قاله في «عمدة القاري».

(وأنَّ عبد الله بن عمر)؛ أي: ابن الخطاب رضي الله عنهما، قال في «عمدة القاري» : (عطف على قوله: «عن عبد الله»، فيكون موصولًا إن حُمِلَ على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله، وإلا؛ فأبو سلمة لم يُدْرِكِ القصة) انتهى، لكن قول الكرماني: (هذا إمَّا تعليق من المؤلف، وإمَّا كلام أبي سلمة، والظاهر: الثاني)، يؤيد سماع أبي سلمة من عبد الله، ومثله ما أخرجه أحمد من طريق أخرى: عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن ابن عمر قال: رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ، فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر؛ قال لي سعد: سل أباك... ؛ وذكر القصة، ورواه ابن (٣) خزيمة من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر نحوه، وفيه: أنَّ عمر قال: كنا ونحن مع نبينا عليه السلام نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسًا، وقوله: (سأل)؛ أي: عبد الله (عمر)؛ أي: والده (بن الخطاب) كما ثبت للأصيلي (عن ذلك)؛ أي: عن مسح النبي الأعظم عليه السلام على الخفين، خبر (أنَّ)، (فقال)؛ أي: عمر عطف على (سأل) : (نعم)؛ أي: مسح النبي الأعظم عليه السلام على الخفين.

وقوله: (إذا حدثك شيئًا) : نكرة عامة؛ لأنَّ الواقع في سياق الشرط كالواقع في سياق النفي يفيد العموم، كما في «عمدة القاري» (سعْد)؛ بسكون العين؛ أي: ابن أبي وقاص، وهو بالرفع فاعل (حدثك) (عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم فلا تسأل) : وفي رواية: (فلا تسل) (عنه)؛ أي: عن ذلك الشيء الذي حدثه سعد (غيره)؛ أي: غير سعد؛ لقوة وثوقه بنقله، من كلام عمر مستأنف استئنافًا بيانيًّا.

ففيه: تعظيم سعد رضي الله عنه.

وفيه: دليل على وجوب العمل بخبر الواحد وإن كان ظنيًّا، وأنَّ عمر يكتفي بخبره، وما نُقِلَ عنه من توقفه في خبر الواحد؛ فذاك عند وقوع ريبة في خبره، مع أنه قد يصير الخبر محفوفًا بالقرائن، فيفيد اليقين؛ لقيام تعدد القرائن مقام تعدد الأشخاص، وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال بأن يقال: لم نهاه عن السؤال عن غيره؟ أو هو كناية عن تصديقه؛ لأنَّ المصدق لا يسأل غيره، وإنما أنكر ابن عمر ذلك مع قدم صحبته؛ لخفائه عليه، أو لأنَّه أنكر عليه مسحه في الحضر، كما هو ظاهر رواية مالك في «الموطأ» : أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد وهو أميرها، فرآه يمسح على الخفين، فأنكر عليه، فقال له سعد: سل أباك؛ فذكر القصة، وأمَّا في السفر؛ فكان ابن عمر يعلمه ويرويه عن النبي الأعظم عليه السلام، كما رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه الكبير»، وابن أبي شيبة في «مصنفه» من رواية سالم عنه قال: رأيت النبي الأعظم عليه السلام يمسح على الخفين بالماء في السفر، أفاده في «عمدة القاري».

(وقال موسى بن عُقْبة)؛ بضم العين المهملة وسكون القاف: التابعي صاحب «المغازي»، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومئة، وهذا التعليق إمَّا من المؤلف؛ فيكون عطفًا على (حدثنا أصبغ)، وإمَّا من كلام ابن وهب؛ فيكون عطفًا على (حدثني عمرو)، قاله الكرماني.


(١) في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (رواة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) زيد في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>