للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

يحتمل أنه عليه السلام لم يبين ذلك؛ قصدًا للتستر عليهما خوفًا من الافتضاح، وهو عمل مستحسن، ولا سيما من حضرة النبي الأعظم عليه السلام الذي من شأنه الرحمة والرأفة على عباد الله تعالى، ويحتمل أنه قد بينه؛ ليحترز عنه غيره عن مباشرة ما باشر صاحب القبرين، ولكن الراوي أبهمه عمدًا، كما ذكرنا) انتهى.

قلت: ويؤيد الأول أن عادته عليه السلام الإبهام عن مثل ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها حين أرادت شراء بريرة وشرطوا عليها الولاء؛ فأخبرت بذلك النبي عليه السلام، فأمرها بالشراء، وصعد المنبر، وقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله عز وجل...» إلى آخر القصة، فأبهم الشارط، وهذه عادته عليه السلام؛ سترًا على أمَّته.

فإن قلت: قد ذكر القرطبي عن بعضهم: أن أحدهما كان سعد بن معاذ رضي الله عنه.

قلت: قد ردَّه في «عمدة القاري» : (بأن هذا قول فاسد لا يُلتَفَتُ إليه، ومما يدل على فساده أنَّ النبي الأعظم عليه السلام حضر جنازته كما ثبت في «الصحيح»، وسماه النبي عليه السلام سيدًا، حيث قال لأصحابه: «قوموا إلى سيدكم»، وقال: «إن حكمه وافق حكم الله تعالى»، وقال: «إن عرش الرحمن اهتز لموته»، وغير ذلك من مناقبه العظيمة، وقد حضر النبي عليه السلام دفن المقبورين دل عليه حديث أبي أمامة رواه أحمد، ولفظه: أنه عليه السلام قال لهم: «من دفنتم اليوم ههنا؟»، ولم ينقل عنه (١) عليه السلام ما ذكره القرطبي عن البعض، فدل ذلك على بطلانه في هذه القضية) انتهى.

(فقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبان)؛ أي: الإنسانين، وفي حديث أبي بكرة من «تاريخ المؤلف» بسند جيد: مر النبي عليه السلام بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أمَّا أحدهما؛ فيُعَذَّبُ في البول، وأمَّا الآخر؛ فيُعَذَّب في الغيبة»، وفي حديث أبي هريرة من «صحيح ابن حبان» : مر عليه السلام بقبر، فوقف عليه، وقال: «ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه يخفف عنه بعض عذاب القبر»، وهو عند أبي موسى بلفظ: «قبرين؛ رجل لا يتطهر من البول، وامرأة تمشي بالنميمة»، وعند ابن أبي شيبة من حديث يعلى بن شبابة: مر عليه السلام بقبر يُعذَّب صاحبه، فقال: «إن هذا القبر يُعَذَّبُ صاحبهُ في غير كبير»، ولمَّا ذكره البرقي في «تاريخه»؛ فقال: «قبرين؛ أحدهما: يأكل لحوم الناس ويغتابهم، وكان هذا لا يتقي بوله»، وفي حديث الأعمش عن جابر: دخل النبي عليه السلام حائطًا لأبي مبشر، فإذا بقبرين؛ فدعا بجريدة رطبة فشقها، ثم وضع واحدة على أحد القبرين، والأخرى على الآخر، ثم قال: «لا يرفعان عنهما حتى يجفا»، وقال: «أمَّا أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يتنزه من البول»، وفي حديث أنس: مر عليه السلام بقبرين من بني النجار يعذبان في النميمة والبول، فأخذ سعفة رطبة فشقها، وجعل على ذا نصفًا، وعلى ذا نصفًا، وقال: «لا يزال يخفف عنهما العذاب ما داما رطبتين»، وورد في عذاب القبر أحاديث كثيرة، كذا في «عمدة القاري».

(وما يُعَذَّبان في كبير)؛ بالموحدة، و (ما) : نافية على الأظهر؛ أي: بكبير تركه عليهما إلا أنه كبير من حيث المعصية، وقيل: يحمل (كبير) على أكبر؛ تقديره: ليس هو أكبر الذنوب؛ إذ الكبائر متفاوتة، وقال القاضي عياض: إنه غير كبير عندكم؛ لقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور: ١٥]، وذلك أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة وتركها كبيرة، وفي «شرح السنة» : (ومعنى: «وما يعذبان في كبير» : أنهما لا يعذبان في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز عنه؛ إذ لا مشقة في الاستتار عند البول، وترك النميمة، ولم يُرِد أنهما غير كبير في أمر الدين)، وقال المازري: (الذنوب تنقسم: إلى ما يشق تركه طبعًا؛ كالملاذ المحرمة، وإلى ما ينفر منه طبعًا؛ كتارك السموم، وإلى ما [لا] يشق تركه طبعًا؛ كالغيبة والبول)، كذا في «عمدة القاري».

ثم قال: وفيه: أن عذاب القبر حق حتى يجب الإيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة خلافًا للمعتزلة، ولكن ذكر القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في «الطبقات» : (إن قيل: مذهبكم أدَّاكم إلى إنكار عذاب القبر، وهو قد أطبقت عليه الأمة؛ قلت: إن هذا الأمر إنَّما أنكره أولًا ضرار بن عمرو لما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك بما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان؛ أحدهما: يجوِّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني: يقطع بذلك، وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما ينكرون قول جماعة من الجهلة: إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع من ذلك)، ونحوه ذكره أبو عبيد الله المرزباني في «الطبقات»، وقال القرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه أيضًا، والإيمان به واجب لازم حسب ما أخبر به الصَّادق عليه السلام، وإن الله يحيي العبد ويرد إليه الحياة والعقل، وهذا نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يكمل العقل للصغار؛ ليعلموا منزلتهم وسعادتهم، وقد جاء أن القبر ينضمُّ عليه كالكبير، وصار أبو الهذيل وبشر إلى أن من خرج عن سمة الإيمان؛ فإنه يُعَذَّبُ بين النفختين، وإأن المسألة إنَّما تقع في تلك الأوقات، وأثبت البلخي والجبائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين والفاسقين، وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، وإنه يجري على الموتى من غير رد روحهم إلى الجسد، وإن الميت يجوز أن يتألم ويحس، وهذا مذهب جماعة من الكرامية، وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا؛ وجدوا تلك الآلام، وأمَّا باقي المعتزلة مثل: ضرار بن عمرو، وبشر المريسي، ويحيى بن كامل، وغيرهم؛ فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا، وهذه الأقوال كلها فاسدة تردُّها الأحاديث الثابتة، وإلى الإنكار أيضًا ذهب الخوارج وبعض المرجئة، ثم المُعَذَّبُ عند أهل السنة: الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إلى جسده أو إلى جزئه، وخالف في ذلك محمد بن جرير وطائفة، وقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا أيضًا فاسد، والله أعلم، انتهى.

(ثم قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (بلى)؛ معناه: أي: إنَّه لكبير، وقد صرح بذلك المؤلف في رواية من طريق عبيدة بن حميد عن منصور، فقال: «وما يُعَذَّبان في كبير، وإنَّه لكبير»، وهذا من زيادات رواية منصور عن الأعمش، ومسلم لم يذكر الروايتين.

وقال الكرماني: فإن قلت: لفظ: (بلى) يختص بإيجاب النفي؛ فمعناه: بل إنهما ليُعَذَّبان في كبير، فما وجه التلفيق بينه وبين (ما يعذبان في كبير)؟ قلت: قال ابن بطال: (وما يعذبان بكبير)؛ يعني: عندكم، (وهو كبير)؛ يعني: عند الله تعالى، وقد ذكرناه، وقال عبد الملك البوني في قوله: «وإنَّه لكبير» : يحتمل أنه عليه السلام ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى الله إليه في الحال بأنه كبير، وفيه نظر، قاله في «عمدة القاري».

ووجهه أنه يستلزم أن يكون نسخًا، وهو لا يدخل في الخبر.

وأجيب: بأن الخبر بالحكم يجوز نسخه، وهذا منه، وأجيب عن أصل الإيراد: بأن الضمير في (وإنَّه لكبير) الذي في الرواية الثانية يعود على العذاب؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة: «يُعَذَّبان عذابًا شديدًا في ذنب هين»، وقيل: إن الضمير يعود على أحد الذنبين، وهو النميمة؛ لأنَّها من الكبائر بخلاف كشف العورة، ورد: بأنه ضعيف، ومع ضعفه غير مستقيم؛ لأنَّ الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط، وأجيب: بأن (كبير) المنفي؛ بمعنى: أكبر، والمثبت واحد الكبائر، وقيل: المعنى: ليس بكبير في الصورة؛ لأنَّ تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب، وقيل: ليس بكبير في اعتقاد المخاطبين، وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز عنه، وجزم بهذا البغوي، ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة، وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويدل له لفظ السياق، فإنه وصف كلًّا منهما بما يدل على تجدده منه، واستمراره عليه؛ حيث إنه أتى بالمضارع بعد (كان)، واستظهر بعضهم أن يقال: إن (ما) مصدرية، وهي وصلتها في محل رفع على الابتداء، و (في كبير) : خبره؛ أي: وتعذيبهما في كبير، وهذا معنى الرواية الصحيحة، ولا يمنع من ذلك ذكر (بل) المختصة بإيجاب النفي؛ لأنَّها تستعمل بعد الإيجاب، كما نقله الرضي؛ كقوله:

وقد بعدت بالوصل بيني وبينها... بل إن من زارَ القبورَ ليبعدا

سلمنا أنه لا بد من تقديم النفي،


(١) زيد في الأصل: (أنه).

<<  <   >  >>