وأتت بـ (كنت)؛ إشارة إلى تكرار الفعل منها واستمراره، ففيه: دليل واضح على أن المني نجس؛ لأنَّ الطاهر لا يغسل، هذا مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والجمهور وهو حجة على الشافعي؛ حيث قال بطهارته، ولا دليل يدل على ما قاله، فإن أحاديث الباب واضحة الدلالة على أنه نجس؛ فليحفظ، (فيخرج) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام من الحجرة (إلى الصَّلاة) أي: في المسجد الشريف (وأثر الغسل في ثوبه)؛ أي: لم يجفَّ (بُقَعُ الماء)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح القاف، مرفوع على جواب سؤال مقدر؛ تقديره: أن يقال ما ذلك الأثر؟ فأجاب بقوله: بقع الماء، وفي الحقيقة؛ أي: هو بقع الماء يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، ويجوز فيه النصب على الاختصاص؛ أي: أعني بقع الماء، وقول ابن حجر: هو بدل ليس بشيء، أفاده في «عمدة القاري»، وقدمنا أن ترجمة الباب مشتملة على ثلاثة أحكام ولم يذكر المؤلف فيه إلا حكم غسل المني، والحكم الثالث: ذكره في أواخر كتاب (الغسل)، وأما الحكم الثاني؛ فقد أفصح عنه في «عمدة القاري» حيث قال: ثم إن بعضهم ذكر كلامًا لا يَذْكُرُه من له بصيرة ورؤية، وفيه رد لما ذهب إليه الأئمَّة الحنفية، ومع هذا أخذ كلامه هذا من الخطابي مع تغييره، وهو أنه قال: وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض؛ لأنَّ الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يُحْمَل الغسل على الاستحباب؛ للتنظيف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعية وأحمد، وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبًا، والفرك على ما كان يابسًا، وهذه طريقة الحنفية، والطريقة الأولى أرجح؛ لأنَّ فيها العمل بالخبر والقياس معًا؛ لأنَّه لو كان نجسًا؛ لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه؛ كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يُعْفَى عنه من الدم بالفرك.
ورده في «عمدة القاري» بقوله: قلت: من هذا الذي ادَّعى تعارضًا بين الحديثين المذكورين حتى يحتاج إلى التوفيق، ولا نسلم التعارض بينهما أصلًا، بل حديث الغسل يدلُّ على نجاسة المني بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضًا في يابسه، ولكن خُصَّ بحديث الفرك.
وقوله: (بأن يحمل الغسل على الاستحباب؛ للتنظيف لا على الوجوب) كلام واهٍ، وهو كلام من لا يدري مراتب الأمر الوارد في الشرع فأعلى مراتب الأمر الوجوب وأدناها الإباحة، وهنا لا وجه للثاني؛ لأنَّه عليه السلام لم يتركه على ثوبه أبدًا، وكذلك الصحابة من بعده، ومواظبته عليه السلام على فعل شيء من غير ترك في الجملة تدل على الوجوب بلا نزاع فيه، وأيضًا الأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ؛ ينصرف إلى الكامل إلا أن يصرف ذلك بقرينة تقدم، فيدل عليه حينئذٍ، وهو فحوى كلام أهل الأصول أن الأمر المطلق -أي: المجرد عن القرائن- يدل على الوجوب.
وقوله: (والطريقة الأولى أرجح...) إلخ؛ هذه غير راجحة فضلًا على أن تكون أرجح، بل هو غير صحيح أصلًا؛ لأنَّه قال فيها: العمل بالخبر؛ لأنَّ من يقول بطهارة المني يكون غير عامل بالخبر؛ لأنَّ الخبر يدل على نجاسته، كما قلنا، وكذلك قوله فيها: العمل بالقياس، غير صحيح أيضًا؛ لأنَّ القياس وجوب غسله مطلقًا، ولكن خُصَّ بحديث الفرك، كما ذكرنا.
فإن قلت: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه؛ كالمخاط؟
قلت: لا نسلم أن القياس غير صحيح؛ لأنَّ المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلًا، والمني موجب لأكبر الحدثين؛ وهو الجنابة، وسقوط الغسل في يابسه لا نسلم أنه يدل على الطهارة؛ لأنَّه لا يلزم من سقوط الغسل الطهارة، كما في موضع الاستنجاء.
وقوله: (كالدم وغيره...) إلخ؛ قياس فاسد؛ لأنَّه لم يأت نصٌّ بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص.
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: ٥٤]، سمَّاه ماء وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل على أنه أراد به التشديد في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرًا؟
قلت: إن تسميته ماء لا يدل على طهارته؛ فإن الله تعالى سمَّى من الدواب بقوله: والله خلق كل دابة من ماء، فلا يدل ذلك على طهارة ماء الحيوان.
فإن قلت: إنه أصل الأنبياء والأولياء، فيجب أن يكون طاهرًا.
قلت: هو أيضًا أصل الأعداء؛ كنمرود، وفرعون، وهامان، وغيرهم، على أنا نقول: العلقة أقرب إلى الإنسان من المني، وهو أيضًا أصل الأنبياء عليهم السلام، ومع هذا لا يقال: إنها طاهرة، وقال هذا القائل أيضًا: وترد الطريقة الثانية أيضًا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها: (كان يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه)، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين.
قلت: رد الطريقة الثانية بهذا غير صحيح، وليس فيه دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون عليه السلام يفعل بذلك فيطهر الثوب، والحال أن المني في نفسه نجس، كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى، وهو ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ عليه السلام: «إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطهورهما التراب»، ورواه الحافظ الطحاوي أيضًا، ولفظه: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه أو نعله؛ فطهورهما التراب»، وقال الحافظ الطحاوي: (مكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما، وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روي في المني).
فإن قلت: في سنده محمَّد بن كثير الصغاني، وقد تكلموا فيه.
قلت: قد وثقه ابن حبَّان وغيره، وروى الحديث في «صحيحه»، وأخرجه الحاكم في «مستدركه»، وقال: (صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه)، وقال النوويُّ في «الخلاصة» : (رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان، هذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة، ورواه أبو داود أيضًا من حديث عائشة بمعناه، والمراد من الأذى: النجاسة، وقال هذا القائل أيضًا، وأما مالك؛ فلم يعرفِ الفركَ، والعمل عندهم على وجوب الغسل؛ كسائر النجاسات).
ورده في «عمدة القاري» : بأنه لا يلزم من عدم معرفته الفرك أن يكون المني طاهرًا عنده، فإن عنده المني نجس كما هو عندنا، وذكر في «الجواهر» للمالكية: المني نجس، وأصله دم، وهو يمر في ممرِّ البول، فاختُلف في سبب التنجيس: هل هو رده إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وقال هذا القائل أيضًا: وقال بعضهم الثوب الذي اكتفت عائشة فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصَّلاة، وهو مردود أيضًا بما له في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضًا: (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام فركًا، فيصلي فيه)، وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصَّلاة، وأصرح منه رواية ابن خزيمة: (أنها كانت تحكه من ثوبه، وهو يصلي).
ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: أراد بقوله: (وقال بعضهم) : الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي؛ فإنه قال في «معاني الآثار» : حدثنا ابن مرزوق: حدثنا بشر بن عمر قال: حدثنا شعبة عن الحكم، عن همام بن الحارث: أنه كان نازلًا على عائشة رضي الله عنها، فاحتلم، فرأته جارية لعائشة، فقالت عائشة: (لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله عليه السلام)، وأخرج الحافظ الطحاوي