للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الأمر بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة؛ سقط الاحتجاج به، ثم نقول: خصهم رسول الله عليه السلام بذلك؛ لأنَّه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير رضي الله عنه بلبس الحرير؛ لحكة كانت به، أو للقمل فإنه كان كثير القمل، أو لأنَّهم كانوا كفارًا في علم الله عز وجل، ورسوله عليه السلام علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس) انتهى.

فإن قلت: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم عليه السلام بذلك؟

قلت: قد كانت (١) إبله عليه السلام ترعى الشيح والفيوم، وأبوال الإبل الذي ترعى ذلك وألبانها تدخل في علاج نوع من أنواع الاستسقاء، فإذا كان كذلك؛ كان الأمر في هذا أنه عليه السلام عرف بطريق الوحي كون هذه شفاء، وعرف أيضًا من هضم الذي تزيله هذه الأبوال فأمرهم بذلك، ولا يوجد هذا في زماننا حتى إذا فرضنا أن أحدًا عرف مرض شخص بقوة العلم وعرف أنه لا يزيله إلا تناول المحرم؛ يباح له حينئذٍ تناوله كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد، وتناول الميتة عند المخمصة، وأيضًا التمسك بعموم قوله عليه السلام: «استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه» أولى؛ لأنَّه ظاهر في تناول جميع الأبوال فيجب اجتنابها لهذا الوعيد، والحديث رواه أبو هريرة وصححه ابن خزيمة وغيره مرفوعًا.

فإن قلت: لو كانت أبوال الإبل محرمة الشرب؛ لما جاز التداوي بها؛ لما روى أبو داود من حديث أم سَلَمَة رضي الله عنها: «أن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها».

قلت: هذا محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار؛ فلا يكون حرامًا؛ كالميتة للاضطرار، كما ذكرنا، وقال ابن حزم: (هذا حديث باطل؛ لأنَّ في سنده سلمان الشيباني، وهو مجهول).

قلت: أخرجه ابن حبان في «صحيحه»، وصحَّحه.

وقوله: (إن في سنده سلمان) وهم، وإنما هو سليمان؛ بزيادة مثناة تحتية، وهو أحد الثقات، أخرج عنه البخاري ومسلم في «صحيحيهما».

فإن قلت: يردُّ عليه قوله عليه السلام في الخمر: «إنها ليست بدواء، وإنها داء» في جواب من سأله عند التداوي بها؟

قلت: هذا روي عن سويد بن طارق: أنه سأل رسول الله عليه السلام عن الخمر، فنهاه، ثم سأله فيها، فنهاه، فقال: يا نبي الله؛ إنها دواء، فقال: «لا، ولكنها داء»، وأجاب ابن حزم عن ذلك، فقال: (لا حجة فيه؛ لأنَّ في سنده سماك بن حرب، وهو يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة وغيره، ولو صح؛ لم يكن فيه حجة؛ لأنَّ فيه أن الخمر ليست (٢) بدواء، ولا خلاف بيننا في أن ما ليس بدواء لا يحل تناوله)، وقد أجاب ابن حجر: بأن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق به غيره من المسكرات.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ دعوى الخصوصية بلا دليل لا تسمع، والجواب القاطع: أن هذا محمول على حالة الاختيار، كما ذكرنا، قاله في «عمدة القاري»، واعترضه العجلوني: بأنه إنَّما ذكر النبيُّ عليه السلام الدائية في الخمر، فقيس عليها بقية المسكرات، وأما باقي المسكرات؛ فليس كذلك، فالمثبت لها حكم الخمر هو المحتاج للدليل.

قلت: وهذا خبط فاسد، فإن دليل باقي المسكرات ثابتة بالقياس على الخمر؛ لكمال الجامع بينهما على أنهادِّعاء الخصوصية غير مزال، بل هو باقٍ، ومدعيها مطالب بالدليل، وذكر النبيُّ الأعظم عليه السلام الدائية في الخمر؛ نظرًا إلى حالة الاختيار كما علمت؛ فليحفظ.

ثم قال في «عمدة القاري» : (فإن قلت: روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا)، وروي عن جابر والبَرَاء رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما أكل لحمه؛ فلا بأس ببوله»، وحديث ابن مسعود الآتي ذكره في باب (إذا ألقي على ظهر المصلي قذرًا وجيفة؛ لم تفسد صلاته)، والحديث الصحيح الذي ورد في غزوة تبوك: (فكان الرجل يجر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي في كبده)، قلت: أما حديث ابن عمر؛ فغير مسند؛ لأنَّه ليس فيه أنه عليه السلام علم بذلك، وأما حديث جابر والبَرَاء؛ فرواه الدارقطني وضعَّفه، وأما حديث ابن مسعود؛ فلأنَّه كان بمكة قبل ورود الحكم بتحريم النجو والدم، وقال ابن حزم: (هو منسوخ بلا شك)، وأما حديث غزوة تبوك؛ فقد قيل: إنه كان للتداوي، وقال ابن خزيمة: (لو كان الفرث إذا عصره نجسًا؛ لم يجز للمرء أن يجعله على كبده) انتهى.

(قال أبو قِلابة)؛ بكسر القاف، عبد الله: (فهؤلاء)؛ أي: العرنيون والعكليون (سرقوا) إنَّما أطلق عليهم سراقًا؛ لأنَّهم أخذوا اللقاح سرقة؛ لكونه من حرز حافظ، كذا في «عمدة القاري».

قلت: الحافظ هو الراعي، فإذا كان مع المواشي راعٍ وهو حافظ لها، وسرق منها شيء؛ قطع، كذا أطلقه شيخ الإسلام خواهر زاده، وقيل: لا بد للقطع من وجود حافظ سوى الراعي، كذا قاله الإمام البقالي، وأفتى به، ووفق في «فتح القدير» : بأن الراعي لم يقصد حفظها من السارق بخلاف غيره، ولو كانت تأوي في الليل إلى بيت بني لها عليه باب مغلق فكسره وسرق منها شاة؛ قطع، ولا يعتبر الغلق إذا كان الباب مردودًا إلا أن يكون بيتًا منفردًا في الصحراء بمأوى المراح، كذا في «النهر الفائق»، وسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

(وقتلوا)؛ أي: قتلوا راعي لقاح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ورعيان إبل الصدقة كما قدمناه؛ فافهم، (وكفروا بعد إيمانهم) قال الكرماني: عُلِم ذلك من الطرق الأُخر، فقد روى مسلم في «صحيحه»، والترمذي: أنهم ارتدوا عن الإسلام، قال القسطلاني: وهو في رواية سَعِيْد عن أنس في (المغازي)، وفي رواية وهيب في (الجهاد) في أصل الحديث؛ فتأمل، (وحاربوا) بالحاء المهملة (الله ورسوله) عليه السلام، وإنما أطلق عليهم محاربين؛ لما ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس رضي الله [عنه] في أصل الحديث، وهربوا محاربين، وقول المؤلف: (قال أبو قلابة...) إلخ إن كان داخلًا (٣) في قول أيُّوب مفعولًا له؛ يكون داخلًا تحت الإسناد، وإن كان مقول البخاري؛ يكون تعليقًا منه، كذا قاله في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر: أن هذا قاله أبو قلابة استنباطًا، ثم قال: ليس موقوفًا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم، ورده في «عمدة القاري»، فقال: (قلت: كلامه متناقض، كما لا يخفى) انتهى.

قلت: ولم يذكر وجه التناقض، ووجهه ظاهر، فإن قوله: (قاله استنباطًا) يفيد أنه موقوف عليه.

وقوله: (ليس موقوفًا) يفيد أنه مرفوع، وهذا التناقض ظاهر، وزعم العجلوني: أن مراد ابن حجر أنه استنباط من أبي قلابة هو قوله: (سرقوا)، وأما الذي جعله ليس موقوفًا على أبي قلابة؛ فهو قوله: (وكفروا بعد إيمانهم...) إلخ؛ فتأمل.

قلت: تأملته فرأيته خلطًا وخبطًا، فإن المتبادر من كلام ابن حجر والظاهر منه أن قول أبي قلابة جميعه استنباطًا، وأنه ليس موقوفًا، وهذا التفصيل الذي زعمه العجلوني هو غير مراده؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لصرح به، وما هو إلا كلام بارد، وذهن شارد.

قال في «عمدة القاري» : (وفي الحديث من الأحكام: نظر الإمام في مصالح قدوة القبائل والغرباء إليه وأمره لهم بما يناسب حالهم، وإصلاح أبدانهم، وفيه: جواز التطبُّب وطب كل جسد بما اعتاده، ولهذا أفرد البخاري بابًا لهذا الحديث وترجم عليه: (الدواء بأبوال الإبل وألبانها)، وفيه: ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء، فإنه عليه السلام بعث في طلبهم لما بلغه فعلهم بالرعاء، واختلف


(١) في الأصل: (كان).
(٢) في الأصل: (ليس)، وكلاهما صحيح.
(٣) في الأصل: (دخلًا)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>