للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

نجاسة الماء إذا تغير بالنَّجاسة خلافًا، كذا في «عمدة القاري».

قلت: على أنه قد ورد هذا الحديث في بئر بُِضاعة اسم امرأة، وهي بكسر الموحدة وضمها؛ بئر قديمة بالمدينة يلقى فيها الجِيَف ومحايض النساء، فذكر ذلك للنبيِّ عليه السَّلام حين توضأ منها، فقال: «الماء طهور...»؛ الحديث، وقد كان ماؤها جاريًا في البساتين تسقى منه خمسة بساتين، وفي الماء الجاري لا يتنجس بوقوع النَّجاسة فيه عندنا، فهذا الحديث إن صح؛ فهو محمول على بئر بضاعة، وهو غير مراد إجماعًا؛ لأنَّه إذا تغير الماء بالنَّجاسة؛ تتنجس بالإجماع، وتمامه في «منهل الطلاب».

(لَا بَأْسَ)؛ أي: لا حرج (بِالْمَاءِ)؛ أي: في استعمال الماء المطلق؛ لأنَّه باقٍ على طهارته (مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله وكسر التحتية آخره، وضميره يعود على الماء، و (ما) : ظرفية مصدرية مأولة بمدة، وقوله: (طَعْمٌ)؛ بالرفع فاعله (أَوْ لَوْنٌ أَوْ رِيحٌ)؛ أي: كل ماء طاهر في نفسه ولا ينجس بإصابة الأذى؛ أي: النَّجاسة إلا إذا تغير أحد الأشياء الثلاثة منه؛ وهي الطعم واللون والريح، فكل ماء دائم وقعت فيه نجاسة؛ لم يجز الوضوء به قليلًا كان أو كثيرًا، وأمَّا الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة؛ جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر، وهو إمَّا طعم أو لون أو ريح؛ لأنَّ النَّجاسة لا تستقر فيه مع جريان الماء، والمراد بالجاري ما يعده العرف جاريًا على الأظهر، وقيل: هو ما يذهب بقشة واحدة، وهو الأشهر، قال في «عمدة القاري» : فإن قلت: الطعم أو الريح أو اللون هو المغيَّر -بفتح التحتية المشددة- لا المغيِّر على صيغة الفاعل، والمغيِّر؛ بالكسر: هو الشيء النجس الذي يخالطه، فكيف يجعل الطعم أو الريح أو اللون مغيرًا على صيغة الفاعل على ما وقع في عبارة البخاري، وأمَّا الذي في عبارة عبد الله بن وهب؛ فهو على الأصل؟

قلت: المغير في الحقيقة هو الماء، ولكن تغيره لما كان لم يعلم إلا من جهة الطعم أو الريح أو اللون؛ فكأنه هو المغير، وهو من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، وزعم الكرماني، فقال: لا بأس؛ أي: لا يتنجس الماء بوصول النجس إليه قليلًا أو كثيرًا، بل لا بد من تغيير أحد الأوصاف الثلاثة في تنجسه، والمراد من لفظ: (ما لم يتغير) : طعمه، فنقول: لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور في لفظ الزُّهري: طعم الماء أو طعم الشيء المنجس، فعلى الأول معناه: ما لم يغير الماء من حاله التي خلق عليها طعمه له لا بد أن يكون بشيء نجس؛ إذ البحث فيه، وعلى الثاني معناه: ما لم يغير الماء طعم النجس، ويلزم منه تغيير طعم الماء؛ إذ لا شك أن الطعم هو المغير للماء للطعم، واللون للون، والريح للريح؛ إذ الغالب أن الشيء يؤثر في الملاقي بالنسبة، وجعل الشيء متصفًا بصفة نفسه، ولهذا يقال: لا يسخن الحار، ولا يبرد البارد، فكأنه قال: ما لم يغير طعم الماء طعم الملاقي النجس أو لا بأس؛ معناه: لا يزول طهوريته ما لم يغيره طعم من الطعوم الطاهرة أو النجسة، نعم؛ إذا كان المغير طعمًا نجسًا؛ نجسه، وإن كان طاهرًا؛ يزيل طهوريته لا طهارته، ففي الجملة: في (١) اللفظ تعقيد، انتهى.

وردَّه في «عمدة القاري» بقوله: (قلت: تفسيره هكذا هو عين التعقيد؛ لأنَّه قد فسر قوله: «لا بأس» بمعنيين؛ أحدهما: بقوله: «لا يتنجس...» إلى آخره، والآخر: بقوله: «لا تزول طهوريته»، وكلا المعنيين لا يساعد اللفظ، بل هو خارج عنه، وقوله: «المغير للطعم هو الطعم» : غير سديد؛ لأنَّ المغير للطعم غير الطعم، وهو الشيء الملاقي له، وكذلك اللون والريح، وكذلك قوله: «والمراد من لفظ: ما لم يغيره طعمه ما لم يتغير طعمه» : غير موجه؛ لأنَّه تفسير للفعل المتعدي بالفعل اللازم من غير وجه، وكذلك ترديده بقوله: «لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور...» إلى آخره: غير موجه؛ لأنَّ الضمير في «لم يغيره» يرجع إلى الماء، فيكون المعنى على هذا: لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم الماء، وطعم الماء ذاتي، فكيف يغير ذات الماء؟ وإنما يغير طعم الشيء الملاقي، والفرق بين الطعمين ظاهر) انتهى.

وقد خبط وخلط العجلوني في هذا المقام وادَّعى أنه التحقيق، وعرج عن عبارة الكرماني وعبارة «عمدة القاري»، ثم اختصر عبارة «عمدة القاري» بعبارة مغلقة ونسبها لنفسه، ونقل أثر الزُّهري بعبارة غير العبارة السابقة التي ذكرناها، واعترض على صاحب «عمدة القاري» : بأنَّه ليس الذي رواه ابن وهب على الأصل كما يتوهم.

قلت: والحال أن الواهم في ذلك هو العجلوني؛ لعدم نقل عبارة الزُّهري بالتحقيق، وإنما نقلها بلفظ مخل محرف حتى يعترض، واعتراضه مردود عليه، كما لا يخفى، وإنما لم يذكر عبارة الكرماني؛ لكونها غير جارية على التحقيق، ولم يذكر عبارة «عمدة القاري»؛ للتعصب والتعنت، بل غيَّرها بعبارة مغلقة غير واضحة، واعتمدها ونسبها لنفسه؛ فافهم واحفظ؛ لكونها في غاية من التحقيق، ونهاية من الدقيق، فلله در صاحب «عمدة القاري» ما أغزر علمه وأوفر فهمه! وإنما يعرف الفضل من الناس ذووه.

قلت: وحاصله: أن الطعم وأخويه مغير، والماء متغير به، وهو طعم النجس أو لونه أو ريحه؛ فإنه هو الذي غير الماء أو طعم الماء أو لونه أو ريحه الحاصل بمخالطة النَّجاسة، فالمتغير هو الماء، لكنه لمَّا لم يعلم تغيره من جهة طعمه أو ريحه أو لونه؛ كان هو المتغير، فهو من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، والله تعالى أعلم.

وقال في «منهل الطلاب» : المراد من هذه الأوصاف -أعني: الطعم واللون والريح- أوصاف النَّجاسة لا الشيء المتنجس؛ كماء الورد والخل مثلًا، فلو صب في ماء جار؛ يعتبر أثر النَّجاسة التي فيه لا أثره نفسه؛ لطهارة المائع بالغسل، وكذا الثوب المصبوغ بالصبغ النجس، والمخضوبة بالحناء النجس والعضو ونحوه المتلطخ بالدهن النجس إذا وضع في الماء الجاري فظهر فيه لون الصبغ والحناء وأثر الدهن؛ لا يتنجس ما لم يظهر فيه أثر النَّجاسة لا أثر هذه الأشياء، وتمامه فيه؛ فليحفظ.

قال في «عمدة القاري» : واستنبط منه: أن مذهب الزُّهري في الماء الذي يخالطه شيء نجس الاعتبار بتغييره بذلك من غير فرق بين القليل والكثير، وهو مذهب جماعة، وشنع أبو عبيد في كتاب (الطهور) على من ذهب إلى هذا بأنَّه يلزم منه أن من بال في إبريق ولم يغير للماء وصفًا؛ أنه يجوز له التطهير به، وهو مستبشع.

وزعم ابن حجر أن هذا نصر قول التفريق بالقلتين.

وردَّه في «عمدة القاري» قال: قلت: كيف ينصر هذا بحديث القلتين، وقد قال ابن العربي: مداره على علقمة أو مضطرب في الرواية أو موقوف؟! وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير وهو إباضي، واختلفت روايته؛ فقيل: قلتين، وقيل: قلتين أو ثلاثًا، وروي: أربعون قلة، وروي: أربعون غربًا، ووقف على أبي هريرة وعبيد الله بن عمر، وقال اليعمري: حكم ابن منده بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عنه من جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها والاضطراب، ولعل مسلمًا تركه لذلك.

قلت: ولذلك لم يخرِّجه البخاري؛ لاختلاف وقع في إسناده، وقال أبو عمر في «التمهيد» : ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر؛ لأنَّه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، وقال الدبوسي في كتاب «الأسرار» : وهو خبر ضعيف، ومنهم من لم يقبله؛ لأنَّ الصحابة والتابعين لم يعملوا به، انتهى، وقال في «منهل الطلاب» : وحديث القلتين ضعيف بالاضطراب سندًا ومتنًا، أما الأول؛ فقال أبو دواد: إن في إسناده ضعفًا، وقال ابن المديني شيخ البخاري: حديث القلتين مما لا يثبت، وقال البيهقي: الحديث غير قوي، وقد


(١) في الأصل: (ففي)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>