وذكر ابن التين: أن غيره رواه بفتح الهمزة، ورواه النسائي، وابن خزيمة عن أحمد بن عبدة، عن حمَّاد بتقديم العين على الهمزة، وكذا أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل القاضي، عن عارم شيخ البخاري فيه، وعند أبي داود: (أُه أُه)؛ بضمِّ الهمزة، وقيل: بفتحها، والهاء ساكنة، وعند ابن خزيمة: (عا عا)، وفي «صحيح» الجوزقي: (إِخ إِخ)؛ بكسر الهمزة، وبالخاء المعجمة، وفي «مسند أحمد» : (كان يرفع لسانه، ووصفه غيلان: بأنه كان يستنُّ طولًا)، وكلها عبارة عن إبلاغ السواك إلى أقاصي الحلق، و (أع) في الأصل حكاية الصوت، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أن في بعض النسخ بالغين المعجمة، انتهى، وقال في «المقدمة» : (أع أع) حكاية الصوت الخارج عند وضع السواك في الفم) انتهى.
وزعم ابن حجر وتبعه القسطلاني أن الرواية الأولى أشهر، وإنما اختلفت الرواة؛ لتقارب مخارج هذه الحروف، وكلها ترجع إلى حكاية صوته إذا جعل السواك على طرف لسانه، كما عند مسلم، والمراد طرفه الداخل، كما عند أحمد، انتهى.
قلت: وهو فاسد؛ فإنه لا شهرة للرواية الأولى إلا في «البخاري»، بل جميع الروايات مشهورة معلومة معروفة.
وقوله: (وإنما اختلفت الرواة...) إلخ ممنوع؛ فإن الرواة ثقات أرباب ضبط وتحقيق، وكل واحد منهم عبر كما سمع.
وقوله: (وكلها ترجع...) إلخ هذا الحصر ممنوع؛ لأنَّ اختلافهم كان لمغايرة ما سمعوه، بل هذا هو الظاهر، ويدل لذلك ما قدمنا عن أبي داود أنه عنده: (أُه أُه)؛ بضمِّ الهمزة، أو بفتحها، فإنها تدلُّ على المغايرة، كما لا يخفى، وهذا ظاهر لكل من له أدنى ذوق في العلم، ولظهوره لم يتعرض له إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، فلا عجب عليه؛ فليحفظ.
(والسواك في فيه)؛ أي: في فمه، والجملة محلها نصب على الحال، وقوله: (يقول) : جملة من الفعل والفاعل في محل نصب على الحال، وقوله: (أع أع) في محل نصب على أنه مقول القول؛ فليحفظ، (كأنه يَتهَوَّع)؛ بفتح التحتية والهاء، وتشديد الواو، آخره عين مهملة؛ أي: يتقيأ، وهو من باب (التفعل) الذي للتكلُّف، يقال: هاع يهوع؛ إذا قاء من غير تكلُّف، فإذا تكلَّف؛ يقال: تهوَّع، وفي «الموعب» : (هاع الرجل يهوع هوعًا وهواعًا: جاء القيء من غير تكلُّف، والذي يخرج من الحلق يسمَّى هواعة، وهوَّعته: ما أكلته إذا استخرجته من حلقك)، وقال ابن سيده: (الهيعوعة في بنات الواو لا يتوجَّه إلا أن يكون محذوفًا)، قاله في «عمدة القاري»، وتمامه فيه، ثم قال: والحديث يدل على أن السواك؛ أي: استعماله سنة مؤكدة؛ لمواظبته عليه السلام عليه ليلًا ونهارًا، وقام الإجماع على كونه مندوبًا حتى قال الأوزاعي: هو شطر الوضوء، وقد جاء أحاديث كثيرة تدل على مواظبته عليه السلام عليه، ولكن أكثرها فيه كلام، وأقوى ما يدل على المواظبة محافظته عليه السلام له حتى عند وفاته كما في «البخاري» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنُّ به، فأشار رسول الله عليه السلام ببصره إلى أن آخذه فأخذته، وقصمته، وطيبته، ودفعته إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاستنَّ به...)؛ الحديث، انتهى.
قلت: ولأن قوله في الحديث الآتي: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) يدل على المواظبة أيضًا، فيفيد أن ذلك كان عادة له عليه السلام، واختلف العلماء فيه، فقال الإمام الأعظم رضي الله عنه: إنَّ السواك من سنن الدين وهو قول الجمهور، وقال في «عمدة القاري» وتبعه الشارحون: إنَّه الأقوى، فيستوي فيه جميع الأحوال؛ فهو سنة مؤكدة على الأصح، وفي «الهداية» : الصحيح استحبابه، وهو قول الشافعي، وقال في «فتح القدير» : (إنه سنة للوضوء)، وبه قال جمع، وقال في «البدائع» : (إنه قول الأكثرين، وقال بعض العلماء: (إنه من سنن الصَّلاة)، وقال ابن حزم: (هو سنة، ولو أمكن لكل صلاة؛ لكان أفضل، وهو فرض لازم يوم الجمعة)، وحكى الماوردي والاسفرائيني عن أهل الظاهر: أنه واجب، وعن إسحاق: أنه واجب أيضًا، إن تركه عمدًا؛ بطلت صلاته، وزعم النووي أن هذا لم يصح عن إسحاق، وفي حواشي «الهداية» : أنه مستحب في جميع الأوقات، ويؤكد استحبابه عند قصد الوضوء، فيُسن أو يُستحب عند كل صلاة، وصرح البرهان الحلبي، والعلامة العمادي: باستحبابه عند الصَّلاة.
قال في «عمدة القاري» : (وكيفيته عندنا: أن يستاك عرضًا لا طولًا عند مضمضة الوضوء)، وأخرج أبو نعيم من حديث عائشة قالت: (كان صلَّى الله عليه وسلَّم يستاك عرضًا لا طولًا)، قال في «البحر» : (وكيفيته: أن يستاك أعالي الأسنان وأسافلها والحنك، ويبتدئ من الجانب الأيمن، وأقله ثلاثة في الأعالي، وثلاث في الأسافل بثلاث مياه) انتهى، أي: بأن يبلَّه في كل مرة.
قال في «معراج الدراية» : (ولا تقدير فيه، بل يستاك إلى أن يطمئن قلبه بزوال النكهة، واصفرار الأسنان، والمستحب فيه ثلاث بثلاث مياه) انتهى.
قلت: والظاهر أنه لو حصل الاطمئنان بأقل من ثلاث؛ فالمستحب إكمالها.
وفي «المغني» : (ويستاك على لسانه وأسنانه)، وقال في «شرح الكنز» : ويستاك عرضًا في الأسنان، وطولًا في اللسان جمعًا بين الأحاديث، وعند فقد السواك أو فقد أسنانه؛ تقوم الخرقة الخشنة أو الإصبع مقامه في تحصيل الثواب، وبأي إصبع استاك لا بأس به، والأفضل أن يستاك بالسبابتين يبتدئ باليسرى، ثم باليمنى، وإن شاء؛ استاك بإبهامه اليمنى، والسبابة اليمنى يبتدئ بالإبهام من الجانب الأيمن فوق وتحت، ثم بالسبابة من الأيسر كذلك، يدل لهذا ما رواه البيهقي: أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يجزئ من السواك الأصابع» ولأن المقصود منه التنظيف وذهاب الرائحة، وقد حصل؛ فافهم.
وأما المرأة؛ فيقوم العلك مقام السواك لها مع القدرة عليه، فيندب لها فعل العلك؛ لضعف بنيتها، وعند فقده تقوم الإصبع مقامه؛ كالسواك، كذا في «النهر»، وإنما يندب لها العلك؛ لأنَّ سنَّ المرأة ضعيف، ويخاف من كثرة السواك سقوط أسنانها، كذا في «المحيط».
ويستحب إمساكه بيمينه؛ لأنَّه المنقول المتوارث والسنة بأخذه أن يجعل الخنصر أسفله، والإبهام أسفل رأسه، وباقي الأصابع فوقه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه، ولا يقبضه بيده؛ لأنَّه خلاف السنة؛ ولأنَّه يورث الباسور، ويستحب أن يكون السواك لا رطبًا يلتوي؛ لأنَّه لا يزيل القلح؛ وهو وسخ الأسنان، ولا يابسًا يجرح اللثة؛ وهي منبت الأسنان، فالمراد أن رأسه الذي هو محل استعماله يكون لينًا لا في غاية الخشونة، ولا في غاية من النعومة.
ويستحب أن يكون السواك مستويًا من غير عقد ولا اعوجاج، وأن يكون غلظ الخنصر أو الإصبع، وأن يكون طول الشبر المعتاد وقيل: شبر المستعمل ويكره أن يستاك مضطجعًا؛ لأنَّه يورث كبر الطحال، ويكره معه؛ لأنَّه يورث العمى، ونفخ الرئة، وأما بلع الريق بلا مص، فقال الحكيم الترمذي: (وابلع ريقك أول ما تستاك؛ فإنه ينفع الجذام والبرص، وكل داء سوى الموت، ولا تبلع بعده شيئًا؛ فإنه يورث الوسوسة)، يرويه زياد بن غيلان، كذا في «الحلية» للمحقق ابن أمير حاج، وفيها: (ثم بعد الاستياك يُسْتَحَبُّ أن يغسله، وإلا؛ فيستاك الشيطان به، ويُسْتَحَبُّ ألَّا يزاد على شبر، وإلا؛ فالشيطان يركب عليه، ويستحبألَّا يضعَه على الأرض عرضًا، بل ينصبه طولًا، وإلا؛ فخطر الجنون، فإنه روي عن سَعِيْد بن جبير قال: من وضع سواكه على الأرض فجن من ذلك؛ فلا يلومنَّإلا نفسه) انتهى.
ويُكْرَهُ أن يستاك بكل شيء مؤذٍ؛ كقضبان الرمان والريحان؛ لما رواه الحارث في «مسنده» عن ضمير بن حبيب قال: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن السواك بعود الريحان، وقال: «إنه يحرك عرق الجذام»)، كذا في «شرح الهداية» لإمام الشارحين الشيخ الإمام