للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فهو الفريابي؛ لأنَّه كثير الملازمة للثوري، فدل على أنه هو؛ فافهم، (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران، (عن سالم بن أبي الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، رافع، (عن كُريب) بضمِّ الكاف بالتصغير، مولى ابن عباس، (عن ابن عباس)؛ عبد الله رضي الله عنهما، (عن مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، بنت الحارث (زوج النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وخالة ابن عباس رضي الله عنهم (قالت: توضأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وضوءه للصلاة)؛ أي: مثل وضوء الصَّلاة في سننه وآدابه، فيسن الابتداء بالنية؛ وهي أن ينوي رفع الحدث واستباحة الصَّلاة، أو ما لا يحل إلا بالطهارة، وتسن التسمية في ابتدائه، فلو نسيها فتذكرها في خلاله؛ لا يأتي بها، لما في «مراقي الفلاح»، ويكره الدعاء؛ لأنَّه في مصبِّ الأقذار، انتهى.

قلت: والتسمية أولى بذلك، كذا في «منهل الطلاب» إلا أنه لا يستقبل القبلة؛ لأنَّه يكون مع كشف العورة غالبًا، فالمراد بهذا الوضوء: الشرعي؛ احترازًا عن اللغوي الذي هو غسل اليدين فقط، (غير رجليه)؛ أي: إلا رجليه، فأخرهما عن الغسل في وضوء الغسل؛ ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء، كما قاله القرطبي، ففيه عدم وجوب الموالاة في الوضوء، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور.

قال في «عمدة القاري» : (فيه: التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل، وبه احتج أصحابنا على أن المغتسل إذا كان توضأ أولًا؛ يؤخر غسل رجليه، لكن أكثر أصحابنا حملوه على أنهما إن كانتا في مستجمع الماء؛ يؤخرهما، وإن لم يكونا فيه؛ لا يؤخرهما، وكل ما جاء من الروايات التي فيها تأخير الرجلين؛ فمحمول على ما قلنا، وهذا هو التوفيق بين الروايات التي في بعضها تأخير الرجلين صريحًا لا مثل ما قاله بعضهم، ويمكن الجمع بأن تحمل رواية عائشة على المجاز، وإما على حالة أخرى)، قلت: هذا خباط؛ لأنَّ المجاز لا يصار إليه إلا عند الضرورة، وما الداعي لها في رواية عائشة حتى يحمل كلامها على المجاز؟ وما الصواب الذي يرجع إليه إلا ما قلنا، انتهى؛ أي: من أنه إن كان في مستنقع الماء؛ يؤخر غسلهما، وإلا؛ فلا، وبه جزم في «الهداية»، و «المبسوط»، و «الكافي»، وقال في «المجتبى» : (إنه الصحيح)، ومراده بقوله: (بعضهم) : هو ابن حجر العسقلاني، فإنه قد ذكر هذا الخباط، وقد بينه صاحب «إيضاح المرام»؛ فافهم.

وزعم الكرماني أن التوفيق بين ما هنا وبين رواية عائشة، وهي زيادة ثقة مقبولة، فيحمل المطلق على المقيد، فرواية عائشة محمولة على أن المراد بوضوء الصَّلاة: أكثره؛ وهو ما سوى الرجلين، ويحتمل أن يقال: إنهما كانا في وقتين مختلفين، فلا منافاة بينهما.

ورده في «عمدة القاري» : بأنا قد ذكرنا وجه التوفيق بين الروايات، وأن ما ذكره هو الحقيقة، حاصل ما ذكرنا: من أنه إن كانتا في مستجمع الماء؛ يؤخرهما، وإلا؛ فلا.

قلت: على أن قوله: (إن المراد بوضوء الصَّلاة أكثره) منقوض، فإن الوضوء لا يقال: إن له أكثر أو أقل، فإن ميمونة رضي الله عنها قد سمته وضوء الصَّلاة، ولا ريب أن وضوء الصَّلاة هو الوضوء الكامل، وقد أتى به غير أنه أخَّر الرجلين عن محلهما، فكل منهما وضوء كامل، فليس فيه حمل المطلق على المقيد.

وقوله: (ويحتمل...) إلخ هو محل وجه التوفيق، لكن ما ذكره صاحب «عمدة القاري» في وجه التوفيق هو الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وفي الأفضل عند الشافعي قولان، قال النووي: أصحهما وأشهرهما أنه يكمل وضوءه؛ لأنَّ أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك.

قلت: وهذا ليس بشيء، فإن رواية عائشة صريحة في أنه كان يكمل الوضوء، أما رواية ميمونة؛ فإنها صريحة بأنه يؤخِّر غسل الرجلين، وكذا رواية أبي معاوية السابقة، وفي رواية أحمد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، ولفظه: (كان إذا اغتسل من الجنابة؛ يبدأ فيغسل يديه...)؛ الحديث، وفي آخره: (يتنحى فيغسل رجليه)، فقد اختلفت الروايات عنهما، والتوفيق بينهما: بأن يحمل على أنه إن كان في مستجمع الماء؛ يؤخِّر، وإن كان على مكان مرتفع؛ لا يؤخر؛ جمعًا بين الروايات، وهذا هو الصواب، (وغسل)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (فرجه)؛ أي: ذكره، فدل هذا على صحة إطلاق الفرج على الذكر، وذلك بأن يفيض الماء عليه بيده اليمنى، ويغسله باليسرى حتى ينقِّيه وإن لم يكن به نجاسة؛ ليطمئن قلبه بزوالها، والمراد به: قُبُل الرجل والمرأة، وقد يطلق على الدبر أيضًا كما في «المغرب» للمطرزي، لكن قال البرجندي: والمراد به هنا: القبل والدبر وإن اختص لغة بالقبل، وإنما وسطه بين الوضوء غير رجليه وبين غسل الأذى؛ أي: النجس؛ لأنَّه مظنة النجاسة؛ لخروجها منه، فيلحق باللاحق في صورة، وبالسابق في أخرى، ومن هنا ظهر نكتة الإتيان بـ (الواو) والعدول عن (ثم)؛ فافهم.

وظاهره كعبارة القدوري وغيره: أن غسل فرجه هو الاستنجاء، فلا يسن أن يأتي به قبل الوضوء، كذا في «منهل الطلاب».

وزعم الكرماني فقال: (إن قلت: غسل الفرج مقدم على التوضؤ، فلِمَ أخَّره؟ قلت: لا يجب التقديم، أو الواو ليست للترتيب، أو أنه للحال).

ورده في «عمدة القاري» فقال: (قلت: كيف يقول لا يجب التقديم، وهذا ليس بشيء؟).

وقوله: (أو الواو ليست للترتيب) حجة عليه؛ لأنَّهم يدعون أن الواو في الأصل للترتيب، ولم يقل به أحد ممن يعتمد عليه.

وقوله: (أو أنه للحال) غير سديد، ولا موجه؛ لأنَّه كيف يتوضأ في حالة غسل فرجه؟ انتهى.

قلت: وعلى هذا فقوله: (وغسل) مصدر قطعًا، لا فعل، كما زعمه العجلوني تبعًا للكرماني؛ حيث جعل (الواو) للحال، وهذا ليس بشيء كما علمت؛ فليحفظ.

وزعم ابن حجر قال: (فيه تقديم وتأخير؛ لأنَّ غسل الفرج كان قبل الوضوء؛ إذ (الواو) لا تقتضي الترتيب).

ورده صاحب «عمدة القاري» : بأن هذا تعسف وهو أيضًا حجة عليه، وهو أن ما ذكره خلاف الأصل الذي استدلوا به، واعتمدوا عليه، والصواب: أن (الواو) للجمع في أصل الوضع؛ والمعنى: أنه جمع بين الوضوء وغسل الفرج، وهو وإن كان لا يقتضي تقديم أحدهما على الآخر على التعيين؛ لكن ظاهره أنه غسل فرجه بعدما توضأ، وما رواه المؤلف من طريق ابن المبارك عن الثوري من أنه ذكر أولًا غسل اليدين، ثم غسل الفرج، ثم مسح يده على الحائط، ثم الوضوء غير رجليه، وذكره بـ (ثم) الدالة على الترتيب؛ محمول على أنهما كانا في وقتين مختلفين، فتارة كان يقدم غسل الفرج على الوضوء، وتارة كان يؤخره على الوضوء، على أنه أكثر الروايات تقديم الوضوء على غسل الفرج، كما هو ظاهر حديث ميمونة، ففيه: دليل على أن مس الفرج ليس بناقض للوضوء، وعلى أن الترتيب في الوضوء ليس بفرض، كما لا يخفى.

(و) غسل عليه السلام (ما) أي: الذي (أصابه من الأَذَى)؛ بفتح الهمزة، وتخفيف الذال المعجمة المفتوحة؛ أي: النجس فهو ضد النظافة لغة، يقال: تأذيت من الشيء؛ إذا استقذرته لنجاسته، فالمراد به النجس، ولهذا ترجم المؤلف في (الصَّلاة) : (باب المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من الأذى) والمطروح: هو سلاجزور بني فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها، ولا ريب أن الدم نجس بالإجماع، فالذي أصابه عليه السلام هو المني ورطوبة الفرج، فلا ريب في كونهما نجسان؛ لأنَّه لو لم يكونا نجسين لم يغسلهما، فالغسل دليل النجاسة، كما لا يخفى، وذلك حتى لاتشيع على بدنه عند صب الماء عليه، فيتنجس.

وزعم ابن حجر فقال: (قوله: «وما أصابه من الأذى» ليس بظاهر في النجاسة)، ورده في «عمدة القاري»، فقال: (قلت: هذه مكابرة) انتهى.

قلت: أي: وتعصب، وإنما قاله ترويجًا لما ذهب إليه إمامه.

واعترض العجلوني فزعم: أن الأذى لغة: المكروه، وهو صادق بالطاهر، والنجس من غير ظهور في النجس، انتهى.

قلت: وهذا فاسد، فإن الأذى لغة: ضد النظافة، وهو النجس، ولا ريب أنه مكروه شرعًا وطبعًا، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: ٢٢٢]، والمراد بـ {المَحِيضِ} : الحيض؛ وهو اللوث الخارج من الرحم، فإنه أذًى مستقذر مؤذٍ، من يقربه؛ نفر منه، فقد سمى الله تعالى دم الحيض {أَذًى}، وهو نجس بالإجماع، وكذلك ما نحن فيه، فإنه نجس، فسماه عليه السلام كما سماه ربه تعالى {أَذًى}؛ فافهم.

وقوله: (وهو صادق...) إلخ؛ أي: من حيث اللغة، أما من حيث الشرع؛ فالمكروه هو الذي تستقذره النفس

<<  <   >  >>