للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من إناء مشترك بيني وبينه، فيبادرني ويغتسل ببعضه، ويترك ما بقي فأغتسل أنا منه؛ لأنَّه يخالفه الحديث الآخر، وهو: أنه عليه السلام نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وكذا عكسه أيضًا على ما تقدم فيما مضى، كذا قرره في «عمدة القاري».

قلت: ولأنَّه خلاف الظاهر من قولها، بل الظاهر المتبادر من قولها: (كنت أغتسل...) إلخ: أن يكون ذلك في وقت واحد لا سيما إذا جعل لفظ (والنبي) مفعولًا معه، ويدل لهذا ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى: أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقال: سألت عطاء، فقال: سألت عائشة؛ فذكرت هذا الحديث، فهو نص في المقصود؛ فافهم.

قال في «عمدة القاري» : (ثم هذا الإناء المذكور كان من شَبَه، يدل عليه ما رواه الحاكم من طريق حمَّاد بن سَلَمَة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ولفظه: «من تور من شَبَه»؛ بفتح الشين المعجمة، وفتح الموحدة: نوع من النحاس، يقال: كوز شَبَه وشِبَه بمعنًى) انتهى.

(يقال له)؛ أي: لذلك القدح، وزعم العجلوني: أن الضمير يرجع إلى الإناء.

قلت: وهو فاسد؛ لأنَّه خلاف الظاهر، ويدل له أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فالصواب أنه يرجع إلى القدح، كما قلنا؛ فافهم: (الفَرَق)؛ بفتح الفاء، وفتح الراء، قاله العتبي وغيره وهو الأفصح، كما قاله النووي، وقال ابن التين: بتسكين الراء، وحكي ذلك عن أبي زيد، وابن دريد، وغيرهما من أهل اللغة، وزعم الباجي أن الفتح هو الصواب، قال النووي: وليس كما قال، بل هما لغتان.

قلت: ولعله اشتبه عليه ما نقله صاحب «عمدة القاري» عن ثعلب: (الفرَق)؛ بالفتح، والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح، فتوهم أن الإسكان خطأ، وليس كذلك، بل هما لغتان؛ فليحفظ، ويدل لذلك: ما نقله صاحب «عمدة القاري» عن أبي زيد الأنصاري: أن إسكان الراء جائز، وهو لغة فيه، واختلفوا في مقداره؛ ففي «الصحاح» : الفرق: مكيال معروف بالمدينة، وهو ستة عشر رطلًا، وقال أبو زيد: مقداره ثلاثة أصوع ستة عشر رطلًا، وقال ابن الأثير: الفرَق؛ بالفتح ستة عشر رطلًا، وبالإسكان مئة وعشرون رطلًا.

قلت: وإطلاق أهل اللغة يدل على أن الفرق ستة عشر رطلًا من غير فرق بين مفتوح ومكسور، وحكى أبو عبيد الاتفاق على ذلك، وهذا يدل على أن الفرق صاعان، قال القسطلاني كما عليه الجماهير، ويدل لذلك ما قاله ابن عبد البر في «شرح موطأ مالك» عن ابن وهب: الفرق: مكيال من خشب، كان ابن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية.

قلت: والقِسط؛ بكسر القاف: نصف صاع وزيادة، فيكون الفرق: صاعين، كما لا يخفى، فصح أن الصاع: ثمانية أرطال بالبغدادي على الصواب، وهو قول رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، والحجاج بن أرطاة، والحكم بن عيينة، وأحمد ابن حنبل في رواية، وبعض أصحاب الشافعي لما أخرجه النسائي عن موسى الجهني، قال: أُتي مُجَاهِد بقدح فقال: حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يغتسل بمثل هذا، وقد أخرجه أيضًا الحافظ أبو جعفر الطحاوي عن موسى الجهني، عن مُجَاهِد، قال: (دخلنا على عائشة رضي الله عنها، فاستسقى بعضنا، فأُتي بقس؛ أي: قدح، قالت عائشة: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يغتسل بمثل هذا)، قال مُجَاهِد: (فحزرته ثمانية أرطال، أو تسعة أرطال، أو عشرة أرطال)، ورجال الحديث كلهم ثقات رجال مسلم، وأصحاب السنن، والمراد بقوله: (حزرته)؛ أي: قدَّرته، فمُجَاهِد لم يشك في الثمانية في هذا الحديث، وإنما شك فيما فوقها؛ فثبتت الثمانية بهذا الحديث، وانتفى ما فوقها، والدليل على عدم شكه في الثمانية: رواية النسائي المتقدمة؛ فإنها نص في ذلك، وقال الإمام أبو يوسف، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية: الفرق ثلاثة أصوع؛ لما في مسلم قال ابن عيينة: (الفرق: ثلاثة آصع)، ولما حكاه أبو عبيد من الاتفاق على ذلك، ولما رواه ابن حبان من طريق عطاء، عن عائشة، ولفظه: (قدر ستة أقساط)، والقسط: نصف صاع، فيكون الصاع على هذا: خمسة أرطال وثلث بالبغدادي.

قال ابن حجر: (وهذا هو الصحيح، فإن الحزر لا يعارض التحديد، ومُجَاهِد لم يصرح بأن الإناء المذكور صاع، فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها).

قلت: وهذا مردود، فإن قول ابن عيينة: (الفرق: ثلاثة آصع) حزر وتخمين في المقدار، لا من نص عائشة، وهو لا يعارض تقدير مُجَاهِد؛ لأنَّ تقدير مُجَاهِد أرجح وأثبت؛ لأنَّه كان ذلك بحضرة عائشة، حيث أشارت إليه بحضرتهم، فهو عن مشاهدة منها، فلا ريب أنه أرجح وأثبت.

وقوله: (ولما حكاه أبو عبيد...) إلخ مردود أيضًا، فإن النووي قال: (الفرق: ثلاثة آصع، وقيل: صاعان، وعليه الجماهير)، هكذا عبارة النووي الصحيحة، فعلم بها أن في ذلك خلافًا، فبطلت دعوى الاتفاق.

وزعم العجلوني أن قوله: (وعليه الجماهير) يرجع إلى قوله: (ثلاثة أصوع) وهو باطل، فإنه يرجع إلى قوله: (وقيل: صاعان)، كما لا يخفى؛ لأنَّ الضمير يعود على أقرب مذكور، فقد غفل وذهل عن هذا، وقد تنبه القسطلاني لهذا، فقال: (وهو صاعان كما عليه الجماهير)، ولم يذكر غيره؛ فافهم.

وقوله: (ولما رواه ابن حبان...) إلخ هذا مردود أيضًا؛ لأنَّه حزر وتخمين، بدليل قوله: (قدر...) إلخ، ويدل له أيضًا قول ابن شهاب: (يسع خمسة أقساط)، فعلى هذا؛ يقع الخلاف في مقدار القسط، وهو يدل على أنه حزر وتخمين، وقد اتفق أهل اللغة على أن الفرق: ستة عشر رطلًا، ودعوى الاتفاق على أن القسط نصف صاع مردود بقول ابن شهاب، فإنه لم يبلغ نصف صاع، كما لا يخفى، وما زعمه ابن حجر رده في «عمدة القاري» فقال: (ثم قول هذا القائل: هو الصحيح، غير صحيح؛ لأنَّ فيه ذكر الفرق وهو كما ترى فيه أقوال، فكيف يقول: الحزر لا يعارض به التحديد؟ ففي أي موضع التحديد المعين؟ وأما حديث عائشة؛ فالمذكور فيه الفرق الذي كان يغتسل منه النبيُّ عليه السلام، ولم يذكر مقدار الماء الذي كان فيه، هل ملؤه أو أقل من ذلك) انتهى.

قلت: أي: فبطل دعوى التحديد، وما زعمه ابن حجر من قوله: (ومُجَاهِد...) إلخ باطل؛ لأنَّ تصريح عائشة بأن الإناء المذكور: هو الذي كان النبيُّ عليه السلام يغتسل بمثله وهو صاع لم يحتج مُجَاهِد للتصريح بأن الإناء صاع؛ لأنَّ من المعلوم أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع.

وقوله: (فيحمل...) إلخ هذا الحمل باطل بعد تصريح عائشة به، وتقدير مُجَاهِد له بحضرتها عن مشاهدة وعيان، وإذا سلم الاختلاف في الأواني مع تقاربها؛ يلزمه التسليم لتقدير مُجَاهِد، وأنه الصحيح فقد اعترف بما منع، والحق أحق أن يتبع؛ فليحفظ.

قال في «عمدة القاري» : وفي الحديث جواز اغتسال (١) الرجل والمرأة من إناء واحد، وكذلك الوضوء، وهذا بالإجماع، وفيه تطهير المرأة بفضل الرجل، وأما بالعكس؛ فجائز عند الجمهور سواء خلت المرأة بالماء أو لم تخل، وذهب الإمام أحمد إلى أنها إذا خلت بالماء واستعملته؛ لا يجوز للرجل استعمال فضلها.

فإن قلت: ذكر ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه: كان ينهى أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد؟

قلت: غاب عنه الحديث المذكور، والسنة قاضية عليه.

فإن قلت: ورد نهي النبيِّ عليه السلام أن يغتسل الرجل بفضل المرأة؟

قلت: أهل المعرفة بالحديث


(١) في الأصل: (الاغتسال)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>