للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

غسلا أيديهما.

وقال الليث: (لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلًا كان أو امرأة).

وقال أحمد: (يستحب للجنب إذا أراد أن ينام، أو يطأ ثانيًا، أو يأكل؛ أن يغسل فرجه ويتوضأ)، روي ذلك عن علي، وابن عمر.

وقال سَعِيْد بن المسيِّب: (إذا أراد أن يأكل؛ يغسل كفيه، ويتمضمض)، وحكي نحوه عن أحمد، وإسحاق.

وقال مُجَاهِد: (يغسل كفيه).

وقال مالك: (يغسل يديه إن كان أصابهما أذًى).

وذهبت طائفة إلى أن الوضوء المأمور به الجنب هو غسل الأذى منه، وغسل ذكره ويديه، وهو للتنظيف، وذلك عند العرب يسمى وضوءًا، قالوا: وقد كان ابن عمر لا يتوضأ عند النوم الوضوء الكامل، وهو روى الحديث وعلم مخرجه.

وقال مالك: (لا ينام الجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة)، قال: (وله أن يعاود أهله ويأكل قبل أن يتوضأ إلا أن يكون في يديه قذر فيغسلهما)، قال: (والحائض تنام قبل أن تتوضأ).

وقال الشافعي في نحو قول مالك، وقال القاضي عياض: (ظاهر مذهب مالك أنه ليس بواجب إنَّما هو مرغب فيه)، وابن حبيب يروي وجوبه وهو مذهب داود الظاهري.

وقال ابن حزم في «المحلى» : (ويستحب الوضوء للجنب إذا أراد الأكل، أو النوم، أو لرد السلام، أو لذكر الله تعالى، وليس ذلك بواجب).

قال في «عمدة القاري» : (قد خالف ابن حزمٍ داودَ في هذا الحكم).

وقال ابن العربي: قال مالك والشافعي: (لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ).

فزعم ابن حجر أن بعض المتأخرين أنكر هذا النقل، وقال: (لم يقل الشافعي بوجوبه ولا يعرف ذلك أصحابه، وهو كما قال، لكنَّ كلام ابن العربي محمول على أنه أراد: نفي الإباحة المستوية للطرفين لا إثبات الوجوب، أو أراد بأنه واجب وجوب سنة؛ أي: يتأكد الاستحباب، ويدل عليه أنه قابله بقول ابن حبيب وهو واجب وجوب الفرائض) انتهى.

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: إنكار بعض المتأخرين هذا الذي نقل عن الشافعي إنكار مجرد؛ فلا يقاوم الإثبات، وعدم معرفة أصحابه ذلك لا يستلزم ذلك قول الشافعي بذلك، وأبعد من هذا قول هذا القائل وهو كما قال؛ فكيف يقول بهذا وقد بينا فساده؟! وأبعد من هذا كله حمل هذا القائل كلام ابن العربي على ما ذكره، يعرف ذلك من دقق نظره فيه) انتهى.

قلت: فقوله: (أنكر بعض المتأخرين...) إلخ الإنكار معناه: النفي، وكلام ابن العربي معناه: الإثبات، والقاعدة عند الأصوليين أن المثبت مقدم على النافي.

وقوله: (ولا يعرف ذلك...) إلخ هذا ليس بدليل لما زعمه؛ لأنَّه لا يلزم من عدم معرفتهم ذلك أن لا يكون قولًا لإمامهم؛ لاحتمال عدم اطلاعهم (١) على أقوال إمامهم.

وقوله: (لكن...) إلخ هذا الحمل باطل؛ لأنَّ عدم الجواز دليل الوجوب؛ فكيف يقول: نفي الإباحة؟! وما هو إلا رجم بالغيب على أن هذا الاستدراك غير صحيح؛ لأنَّه لما ظن أن ذلك ليس بقول إمامه ارتقى في جوابه، وقال: وهو كما قال؛ فلو كان كما قال؛ كيف يلزم حمله على ما ذكره؟! وما هذا إلا تناقض وهو يدل على أن ذلك قول إمامه، كما قاله ابن العربي.

وقوله: (أو أراد بأنه...) إلخ هذا ممنوع؛ فإن الواجب لا يراد به السنية والاستحباب؛ فإن مذهب إمام هذا القائل أن الواجب هو الفرض؛ فكيف يراد ما قاله؟! وما هو إلا خروج عن الظاهر.

وقوله: (ويدل عليه...) إلخ هذا لا يدل لما قاله، بل هو دليل على الوجوب؛ لأنَّه لم يقابله، بل ذكره عقيبه وعادة العلماء الأعلام ذكر ما قالوا بالفرض على حده، وما قالوا بالوجوب كذلك، وما قالوا بالاستحباب كذلك؛ فكيف يقول هذا القائل ما قال؟! وكأنه لم يعرف عادة العلماء المؤلفين فقال ما قال؛ فافهم، والله أعلم.

قال إمام الشارحين في «عمدة القاري» : واعلم: أن الحافظ الطحاوي أجاب عن حديث عائشة رضي الله عنها المذكور فقال: وقالوا هذا الحديث غلط؛ لأنَّه حديث مختصر اختصره أبو إسحاق من حديث طويل؛ فأخطأ في اختصاره إياه، وذلك لأنَّ أبا إسحاق قال: أتيت الأسود بن يزيد وكان لي أخًا وصديقًا فقلت له: يا أبا عمر؛ حدثني ما حدثتك به عائشة أم المؤمنين عن صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينام أول الليل ويجيء آخره، ثم إن كانت له حاجة؛ قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء الأول؛ وثب -وما قالت: قام -فأفاض عليه الماء، وما قالت: اغتسل، وأنا أعلم ما تريد، وإن نام جنبًا؛ توضأ وضوء الرجل للصلاة؛ فهذا الأسود بن يزيد قد بيَّن في حديثه لما ذكره بطوله أنه كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وأما قولها: (فإن كانت له حاجة قضاها، ثم نام قبل أن يمس ماء)؛ فيحتمل أن يكون ذلك على الماء الذي يغتسل به لا على الوضوء.

وقال أبو داود: قال يزيد بن هارون: حديث أبي إسحاق وهم، وفي رواية عنه: ليس بصحيح، وقال مهنى: سألت أبا عبد الله عنه، فقال: ليس بصحيح، قلت: لِمَ قال: لأنَّ شعبة روى عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: (أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة)؟ قلت: من قبل مَن جاء هنا الاختلاف؟ قال: من قبل أبي إسحاق.

وقال الترمذي، وأبو علي الطوسي: روى غير واحد عن الأسود، عن عائشة: (أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتوضأ قبل أن ينام وهو جنب يتوضأ وضوءه للصَّلاة (٢))، وهذا أصح من حديث أبي إسحاق، قال: وكانوا يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق، وقد تصدى جماعة لتصحيح هذا الحديث، كما قاله ابن ماجه منهم الدارقطني؛ فإنه قال: يشبه أن يكون الخبران صحيحين؛ لأنَّ عائشة قالت: ربما قدم الغسل وربما أخره، كما حكى ذلك عصيف، وعبد الله بن أبي قَيْس، وغيرهما عن عائشة وأن الأسود حفظ ذلك عنها؛ فحفظ أبو إسحاق عنه تأخير الوضوء والغسل، وحفظ إبراهيم وعبد الرحمن تقدم (٣) الوضوء على الغسل، ومنهم البيهقي.

قال إمام الشارحين: وملخص كلامه: أن حديث أبي إسحاق صحيح من جهة الرواية، وذلك أنه بيَّن فيه سماعه من الأسود في رواية زهير عنه، والمدلس إذا بين سماعه ممن روى عنه وكان ثقة؛ فلا وجه لرده، ووجه الجمع بين الروايتين على وجه يحتمل وقد جمع بينهما أبو العباس بن فريح فأحسن الجمع، وسئل عنه وعن حديث عمر: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: «نعم؛ إذا توضأ أحدكم؛ فليرقد»، ففسر ذلك فيه: الوضوء وبه نأخذ، ومنهم ابن قتيبة؛ فإنه قال: يمكن أن يكون الأمران جميعًا وقعا؛ فالفعل لبيان الاستحباب، والترك لبيان الجواز ومع هذا قالوا: إنا وجدنا لحديث أبي إسحاق شواهد ومتابعين، فممن تابعه: عطاء، والقاسم، وكُريب، والدستوائي، كما ذكره أبو إسحاق الحري، قال: وأحسن الوجوه في ذلك إن صح حديث أبي إسحاق، فيما رواه ووافقه هؤلاء أن تكون عائشة أخبرت الأسود: أنه كان ربما يتوضأ وربما أخر الوضوء والغسل حتى يصبح، فأخبر الأسود إبراهيم أنه كان يتوضأ، وأخبر أبا إسحاق أنه كان يؤخر الغسل، وهذا أحسن الوجوه.

فإن قلت: قد روي عن عائشة ما يضاد ما روي عنها أولًا: هو أن الحافظ الطحاوي روى من حديث الزُّهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل كفيه)، ويروى عنها: (أنه كان يتوضأ وضوءه للصلاة)؟

قلت: أجيب عن هذا بأنها لما أخبرت بغسل الكفين بعد أن كانت علمت بأنه عليه السلام أمر بالوضوء التامفدل ذلك على ثبوت النسخ عندها.

وزعم ابن حجر أن الطحاوي جنح إلى أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث وهو صاحب القصة كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه، كما رواه مالك في «الموطأ» عن نافع.

وأجيب: بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصَّلاة في رواية من رواية عائشة؛ فيعتد بها، ويحمل قول


(١) في الأصل: (اضطلاعهم)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (الصلاة).
(٣) في الأصل: (فقدم)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>