للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الإنزال دون الدبر؛ لعدمها) انتهى.

ولو كان ذكره طويلًا، فعبث فيه حتى أدخله في دبر نفسه هل يجب عليه الغسل؟ فيه قولان رجح في «النهر» عدم الوجوب إلا بالإنزال، فإذا أنزل؛ وجب الغسل، وإلا؛ فلا، ورجح في «منهل الطلاب» الوجوب؛ يعني: يجب عليه الغسل وإن لم ينزل؛ زجرًا له ولتحقق الإيلاج؛ فليحفظ.

قال: وكبر الذكر دليل على رداءة الأصل وصغره على حسنه، كذا قالوا؛ فليحفظ.

هذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، ومذهب مالك، والشافعي، وأحمد: (أنه يجب الغسل على كل من الرجل والمرأة بمجرد تغيُّب الحشفة في الفرج وإن لم يحصل إنزال سواء كان الفرج قبلًا أو دبرًا، من آدمي أو بهيمة، حيًّا أو ميتًا، طائعًا أو مكرهًا، نائمًا أو مستيقظًا) انتهى.

قلت: وإيجابهم في البهيمة والميتة الغسل نظر؛ لأنَّ كمال السببية معدومة فيهما، ولأنَّه لا تتحقق الشهوة فيهما إلا بالإنزال فجعل سببًا للوجوب، أما الإيلاج فقط؛ فالوجوب به غير ظاهر؛ لأنَّ الحديث لا يدل عليه؛ لأنَّ صريح الحديث يدل على الآدمي الحي بخلاف غيره، فبقي على الأصل وهو وجود الإنزال؛ فليحفظ.

قال صاحب «عمدة القاري» : يستنبط من الحديث المذكور: أن إيجاب الغسل لا يتوقف على نزول المني، بل متى غابت الحشفة؛ يجب الغسل عليهما وإن لم ينزلا وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان الخلاف فيه في الصدر الأول، فإن جماعة ذهبوا إلى أن من وطئ في الفرج ولم ينزل؛ فليس عليه غسل، وممن ذهب إلى هذا عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، ورافع بن خديج، وأبو (١) سَعِيْد الخدري، وأُبيُّ بن كعب، وأبو (٢) أيُّوب الأنصاري، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، وجمهرة الأنصاري رضي الله عنهم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأبي سَلَمَة بن عبد الرحمن، وهشام بن عروة، والأعمش، وبه قالت الظاهرية، واحتجوا بآثار:

منها: ما رواه المؤلف من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه الآتي في الباب بعده، وأخرجه مسلم أيضًا والحافظ الطحاوي، والبزار، ولفظه: (عن زيد بن خالد الجهني: أنه سأل عثمان عن الرجل يجامع ولا ينزل؟ فقال: ليس عليه إلا الوضوء، وقال عثمان: أشهد أني سمعت ذلك من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم).

ومنها: حديث أُبيِّ بن كعب رواه مسلم عنه قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الرجل يصيب من المرأة، ثم يكسل؟ فقال: «يغسل ما أصابه من المرأة، ثم يتوضأ»، وأخرجه الحافظ الطحاوي، وابن أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل.

ومنها: حديث أبي سَعِيْد الخدري أخرجه الشيخان عنه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه؛ فخرج ورأسه يقطر فقال: «لعلنا أعجلناك؟» قال: نعم؛ يا رسول الله، قال: «إذا (٣) أعجلت أو قحطت؛ فلا غسل عليك وعليك الوضوء»، وأخرج مسلم عنه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الماء من الماء»، وأخرجه الطحاوي أيضًا.

ومنها: حديث أبي هريرة أخرجه الحافظ الطحاوي عنه قال: بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى رجل من الأنصار؛ فأبطأ فقال: «ما حبسك؟» قال: كنت أصبت أهلي؛ فلما جاءني رسولك؛ اغتسلت من غير أن أحدث شيئًا، فقال: «الماء من الماء والغسل على من أنزل».

ومنها: حديث عتبان الأنصاري رواه أحمد عنه وابن عتبان الأنصاري قال: يا نبي الله؛ إني كنت مع أهلي؛ فلما سمعت صوتك؛ أقلعت فاغتسلت، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الماء من الماء».

ومنها: حديث رافع بن خديج أخرجه الطبراني وأحمد عنه: نادى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل، فاغتسلت فأخبرته أنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل فاغتسلت، فقال عليه السلام: «الماء من الماء».

ومنها: حديث عبد الرحمن بن عوف، أخرجه أبو يعلى عنه.

ومنها: حديث عبد الله بن عباس، أخرجه البزار عنه.

ومنها: حديث عبد الله بن عبد الله بن عقيل، أخرجه معمر بن راشد عنه في «جامعه»، وفي آخر هذه الأحاديث: «الماء من الماء»، وحجة الجمهور حديث الباب وحديث عائشة رضي الله عنها: (أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل؟ فقالت: فعلته أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاغتسلنا منه جميعًا)، أخرجه الحافظ الطحاوي، وأخرجه الترمذي عنها أيضًا، ولفظه: (إذا جاوز الختان الختان؛ وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاغتسلنا)، وهذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه أيضًا، فعائشة رضي الله عنها أعلم بهذا؛ لأنَّها شاهدت ذلك وعاينته عملًا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقولها أولى وأحق ممن لم يشاهد ذلك.

وروى مالك عن يحيى بن سَعِيْد، عن سَعِيْد بن المسيِّب: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أتى عائشة أم المؤمنين فقال: لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمر إني لأعظم أن استقبلك به فقالت: (ما هو؟ ما كنت سائلًا عنه أمك؛ فسلني عنه)، فقال لها: الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل، قالت: (إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل)، فقال أبو موسى: لا أسأل أحدًا عن هذا بعدك أبدًا)، وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال أحمد: هذا إسناد صحيح إلا أنه موقوف على عائشة، وقال أبو عمر: هذا الحديث موقوف في «الموطأ» عند جماعة من رواته، وروى موسى بن طارق، وأبو قرة عن مالك، عن يحيى بن سَعِيْد، عن سَعِيْد بن المسيِّب، عن أبي موسى، عن عائشة: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إذا التقى الختانان؛ وجب الغسل»، ولم يتابع على رفعه عن مالك.

وأخرج الحافظ الطحاوي أيضًا عن عائشة مرفوعًا، وأخرجه عن جابر بن عبد الله قال: أخبرتني أم كلثوم عن عائشة: (أن رجلًا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل: هل عليه غسل؟) وعائشة جالسة فقال عليه السلام: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل».

قالوا: فهذه الآثار أخبرت عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل، وقالت الطائفة الأولى: هذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه؛ يعني: كان يفعله بطريق الاستحباب لا بطريق الوجوب؛ فلا يتم الاستدلال بها والآثار الأُوَل تخبر عما يجب وعما لا يجب، فهي أولى.

وأجاب الجمهور عن هذا: أن هذه الآثار على نوعين؛ أحدهما: «الماء من الماء» لا غير، فهذا ابن عباس قد روى عنه أنه قال: مراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من هذا أن يكون في الاحتلام، وأخرج الترمذي عن علي بن حجر، عن شريك، عن أبي (٤) الجحاف، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: (الماء من الماء في الاحتلام)؛ يعني: إذا رأى أنه يجامع ثم لم ينزل؛ فلا غسل عليه، والنوع الآخر الذي أمر (٥) وأخبر فيه بالقصة وأنه لا غسل في ذلك حتى يكون الماء، قد جاء خلاف ذلك عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وهذا ناسخ لتلك الآثار.

فإن قلت: ليس فيه دليل على النسخ؛ لعدم التعرض إلى شيء من التاريخ؟

قلت: قد جاء ما يدل على النسخ صريحًا، روى أبو داود: حدثنا أحمد بن


(١) في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (إذ لا)، والمثبت موافق لما في «الصحيحين».
(٤) سقط من الأصل: (أبي).
(٥) في الأصل: (الأمر)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>