وترك عندها ولدها منه، وهو جعدة، وهو ممن له رؤية، ولم تصح له صحبة، وابنه المذكور هنا يحتمل أن يكون جعدة هذا، ويحتمل أن يكون من غير أم هانئ، ونسي الراوي اسمه، ورد الأول بوجوه، ورجح الثاني، وجزم ابن هشام في «السيرة» : (بأن اللذين أجارتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان)، وعند الأزرقي: (عبد الله بن أبي ربيعة، بدل زهير)، وقد أوضح ذلك إمام الشَّارحين فقال: (وقولها: «فلان بن هبيرة» فيه اختلاف من جهة الرواية ومن جهة التفسير، ففي «التمهيد» من حديث محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي مرة، عن أم هانئ قالت: (أتاني يوم الفتح حموان لي، فأجرتهما، فجاء علي يريد قتلهما، فأتيت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في قبة بالأبطح بأعلى مكة...)؛ الحديث، وفيه قال عليه السَّلام: «أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت»، وفي «معجم الطبراني» : (إني أجرت حموي)، وفي رواية: (حموي ابن هبيرة)، وفي رواية: (حموي ابني هبيرة)، وقال أبو عمرو في حديث أبي النضر ما يدل على أن الذي أجارته كان واحدًا، وفي هذا اثنين، وأمَّا من جهة التفسير؛ فقال أبو العباس بن سريج: (الرجلان هما: جعدة بن هبيرة، ورجل آخر، وكانا من الشرذمة الذين قاتلوا خالدًا رضي الله عنه، ولم يقبلوا الأمان، ولا ألقوا السلاح، فأجارتهما أم هانئ، وكانا من أحمائها)، وروى الأزرقي بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا: (أنَّهما الحارث بن هشام وهبيرة بن أبي وهب)، وجزم ابن هشام في «تهذيب السيرة» : (بأن اللذين أجارتهما أم هانئ هما: الحارث بن هشام وزهير بن أمية المخزوميان)، وقال الكرماني: (أرادت أم هانئ ابنها من هبيرة أو ربيبها، كما أن الإبهام فيه محتمل لأن يكون من أم هانئ، وأن يكون الراوي نسي اسمه، فذكره بلفظ: «فلان»)، وقال الزبير بن بكار: (فلان بن هبيرة هو الحارث بن هشام المخزومي) انتهى.
وزعم ابن حجر الذي يظهر لي أن في رواية الباب حذفًا؛ كأنه كان فيه: فلان بأنَّهُ عم هبيرة، فسقط لفظ (عم)، أو كان فلان قريب هبيرة، فتغير لفظ (قريب) بلفظ (ابن)، وكل من الحارث بن هشام وزهير بن أمية وعبد الله بن ربيعة يصح وصفه بأن عم هبيرة وقريبه؛ لكون الجميع من بني مخزوم) انتهى.
قلت: وهذا كلام من لم يذق شيئًا من العلم، فأي شيء دله على أن رواية الباب فيها حذف؟ وما هي إلا دعوى لا دليل عليها، بل الظاهر أن الرواية المذكورة في هذا الباب هي هي في الحقيقة يدل عليه أنه ذكر الطبراني هذا الحديث في «معجمه»، وكذا أبو عمرو وغيره، وفيه ما ذكر غير أنه أبدل (فلان) بـ (حموي)، كما رأيت، فلفظ (عم) و (قريب) التي قدرها هذا القائل غير صحيح؛ لأنَّ ذلك زيادة على اللفظ من غير دليل، وإذا وجد التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى عند المحققين.
وقوله: (فتغير...) إلخ: غير صحيح؛ لأنَّ هذا «الجامع الصحيح» أصح الكتب بعد القرآن، فكيف يقال إنه وقع فيه التغيير؟ وما هذا إلا كلام يمجه الطبع السليم على أنه قد رواه جمع عن جمع بالإتقان والحفظ، وهذا يؤمن تغيره، فكيف قال هذا القائل ما قال؟ وما ذكره في وجه الجمع من أنه كل واحد منهم يقال له: (عم هبيرة...) إلى آخره: ممنوع، فالمدعي الأول غير ثابت، وهو أوهى من بيت العنكبوت، فكيف يبني عليه بأضعف منه؟ والوصف بالعم ينافي ذلك؛ لأنَّ العم إمَّا من النسب أو من قرابة الزوج، وهؤلاء ليسوا من ذلك، فلا يصح الوصف بالعم، وكذلك الوصف بالقريب، فمن أين جاء به هذا القائل؟
وقال إمام الشَّارحين: الأصوب والأقرب أن تقول في توجيه رواية أبي النضر: «فلان بن هبيرة» أن يكون المراد من «فلان» هو ابن هبيرة من غير أم هانئ، فنسي الراوي اسمه، وذكره بلفظ «فلان»، ويدل على صحة هذا رواية ابن عجلان في «التمهيد»، ورواية الطبراني، فإنها تدل على أن الذي أجارته أم هانئ هو حموها.
فإن قلت: المذكور في رواية أبي النضر واحد، وفي هذه الروايات اثنان؛ قلت: لا يضر ذلك؛ لأنَّه يحتمل أن يكون الراوي اقتصر على ذكر واحد منهما نسيانًا، كما أبهم اسمه نسيانًا، وقال ابن الجوزي: (إن كان ابن هبيرة منها؛ فهو جعدة)، وجوز أبو عمرو أن يكون من غيرها، وهو الأصوب؛ لما ذكرنا.
فإن قلت: نقل أبو عمرو من أهل النسب أنَّهم لم يذكروا لهبيرة ولدًا من غيرها؛ قلت: لا يلزم من عدم ذكرهم ذلك ألا يكون له ابن من غيرها) انتهى.
زاد في الطنبور نغمة ابن حجر، فزعم أن جعدة معدود فيمن له رواية، ولم يصح له صحبة، وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين: أبو عمرو، وابن حبان، وغيرهما، فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلًا حتى يحتاج إلى الأمان، ثم لو كان ولد أم هانئ؛ لم يهم علي رضي الله عنه بقتله؛ لأنَّها كانت قد أسلمت، وهرب زوجها، وترك ولدها عندها، ورده إمام الشَّارحين فقال: (كونه تابعيًّا أو صحابيًّا على ما فيه من الاختلاف لا ينافي ما ذكرناه فيما قبل ذلك).
وقوله: «فكيف يتهيأ...» إلى آخره: مجرد دعوى، فيحتاج إلى برهان، فظهر من هذا أن قول الكرماني: (أرادت أم هانئ ابنها من هبيرة وربيبها) أقرب إلى الصواب وأوجه، وقول بعضهم: (والذي يظهر لي...) إلى آخره: بعيد في ذلك، وتصرف من عنده بغير وجه؛ لأنَّ فيه ارتكاب الحذف والمجاز؛ والتقدير: بشيء: بعيد غير مناسب، ومخالف لما ذكره هؤلاء المذكورون آنفًا، وهذا كلام كله خلاف الأصل، ومما يمجه من له يد في التصرف في الكلام) انتهى.
ومراد بقوله: (بعضهم) : ابن حجر العسقلاني، فإنه القائل، والذي يظهر لي أن في رواية... إلى آخر كلامه، كما سقناه فيما سبق، وتكلمنا عليه ببعض ما يجب عليه؛ فافهم، والله أعلم.
(فقال رسول الله) : وفي رواية الأصيلي: (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) لأم هانئ: (قد أجرنا من أجرت) يعني: أمنا من أمنت، كما زاده في رواية ابن عجلان في «التمهيد»، كما سبق.
(يا أم هانئ)؛ أي: فليس لشقيقك قتله، (قالت أم هانئ) : في بيان الوقت الذي جاءت به لعند النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (وذاك)؛ بالألف بين الذال والكاف، وفي رواية الأصيلي: (وذلك)؛ باللام، والإشارة إلى ما ذكرته من قولها: فصلى ثمان ركعات (ضحًى)؛ أي: كان ذلك الوقت ضحًى، أو صلاة ضحًى، ويدل للأول: ما في رواية أحمد في هذا الحديث: (وذلك يوم فتح مكة ضحى)، ويدل للثاني: ما في رواية أبي حفص بن شاهين: أن أم هانئ قالت: يا رسول الله؛ ما هذه الصلاة؟ قال: «الضحى»، وما رواه ابن أبي