للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ما قال أُبي، ولم يأل ابن مسعود)، ورده إمام الشَّارحين فقال: اختلاف أُبي وابن مسعود في ذلك لا يدل على أن السائل من عمر هو ابن مسعود بعينه، ويحتمل أن يكون هو أُبي بن كعب رضي الله عنه، والاحتمال موجود فيهما مع أنه خدش وتخمين، وأمَّا اختلافهما في ذلك؛ فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن قال: (اختلف أُبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد، فقال أُبي: لا بأس به، وقال ابن مسعود: إنَّما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون ثيابًا، فأما إذا وجدوها؛ فالصلاة في ثوبين، فقام عمر رضي الله عنه على المنبر فقال: الصواب ما قال أُبي لا ما قال ابن مسعود) انتهى.

قلت: ومعنى قوله: (ولم يألُ) : أي: لم يقصر، ولا يخفى أن ما قاله ابن حجر دليلًا لمدعاه ليس بشيء؛ لأنَّه ليس فيه أن السائل ابن مسعود، بل غاية ما فيه أنَّهما اختلفا في ذلك، وهو لا يدل على أنه ابن مسعود، بل الظاهر أن يكون السائل هو أُبي بن كعب؛ لأنَّه لما اختلفا هو وابن مسعود؛ أراد أُبي الانتصار لنفسه، فسأل عمر عن ذلك، فقام عمر على المنبر، ففي الرواية: (صلَّى)، وهذا تقديره، وهو يدل على أن السائل أُبي بن كعب، فإن عمر قد سمع كلامهما، ولما فرغا؛ سأل أُبي عمر ما الصواب من القول؟ فقام عمر على المنبر، وقال: (الصواب ما قال أُبي)، فهذه قرينة واضحة دالة على أن السائل هو أُبي بن كعب رضي الله عنه؛ فليحفظ.

(فقال)؛ أي: عمر رضي الله عنه مجيبًا للسائل الذي سأله عن الصلاة في الثوب الواحد: (إذا وسع الله؛ فأوسعوا) : فهو دليل على أن الواجب في الصلاة ستر العورة، والثوب الواحد يسترها، فهو كاف، وأن الزيادة عليه مستحب للتجمل وإظهار النعمة، (جمع)؛ أي: ليجمع (رجل عليه) : الضمير فيه يرجع إلى الرجل؛ أي: جمع رجل على نفسه (ثيابه) : وهذا إلى آخره من تتمة كلام عمر رضي الله عنه، ولفظة (جمع) وإن كانت صيغة الماضي، ولكن المراد منها الأمر، وكذلك قوله: (صلى)، ولهذا قال ابن بطال: (يريد: ليجمع عليه ثيابه وليصلِّ فيها) ذكره بلفظ الماضي، ومراده المستقبل؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: ١١٦]؛ والمعنى: يقول الله، يدل عليه: قول عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: ١١٧]، كذا في «عمدة القاري».

وقوله: (صلى)؛ أي: ليصل (رجل) : فيه تسع صور:

الأولى: صلاة الرجل (في إزار) : هو ما يؤتزر به في النصف الأسفل (ورداء) : هو ما يرتدي به في النصف الأعلى.

الثانية: صلاة الرجل (في إزار وقميص)؛ أي: ليصل فيهما.

الثالثة: ليصل الرجل (في إزار وقباء)؛ أي: ليصل فيهما، وإنما قدم هذه الصور الثلاثة؛ لأنَّها أستر وأكثر استعمالًا.

الرابعة: ليصل الرجل (في سراويلَ) : غير منصرف على وزن (مفاعيل) (ورداء)؛ أي: ليصل فيهما.

الخامسة: ليصل الرجل (في سراويل وقميص).

السادسة: ليصل الرجل (في سراويل وقباء).

السابعة: ليصل الرجل (في تبان وقباء).

الثامنة: ليصل الرجل (في تبان وقميص).

والتاسعة: ستأتي، ولم يقصد بذلك العدد الحصر، بل يلحق بذلك ما يقوم مقامه.

فإن قلت: كان المناسب أن يقول: أو كذا أو كذا؛ بحرف العطف، فلم ترك حرف العطف؟

قلت: أخرج هذا على سبيل التعداد، فلا حاجة إلى ذكر حرف العطف؛ كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تصدق امرؤ من ديناره من درهمه من صاع تمره»، ويجوز أن يقال: حذف حرف العطف على قول من يجوز ذلك من النحاة؛ والتقدير حينئذ: صلى رجل في إزار ورداء، أو في إزار وقميص، أو في إزار وقباء... إلى آخره كذلك، كذا في «عمدة القاري».

قلت: ويحتمل أن يكون المحذوف فعلًا؛ والتقدير: صلى في إزار وقميص، صلى في إزار وقباء، وكذا الباقي، كذا قيل، ثم قال: (والحمل على هذا أولى؛ لثبوته إجماعًا، وحذف حرف العطف بابه الشعر فقط، وعند بعض وقوعه في الشعر مختلف فيه) انتهى.

قلت: وفيه نظر، فإن كلًّا من هذين الاحتمالين فيه حذف غاية ما فيه أن الحذف في الأول: حرف العطف، وفي الثاني: الفعل، وحذف حرف العطف أولى من حذف الفعل؛ للدلالة على الأول دون الثاني، وحذف حرف العطف جائز نثرًا ونظمًا، فمن الأول: قوله عليه السَّلام: «تصدق امرؤ من ديناره من درهمه»، كما سبق، ومن الثاني كثير في كلامهم، فما قاله هذا القائل غير صحيح، وقوله: (لثبوته إجماعًا) : فيه نظر، فإن بعضهم منع ذلك؛ فافهم.

وزعم الكرماني أنه من باب (الإبدال)، قال إمام الشَّارحين: (كأنه أشار بذلك إلى ما قاله ابن المنير: أنه كلام في معنى الشرط، كأنه قال: إن جمع عليه ثيابه؛ فحسن، ثم فصل الجمع بصور على البدلية) انتهى.

(قال) أي: أبو هريرة: (وأحسبه)؛ أي: أحسب عمر رضي الله عنه (قال) : ليصل رجل (في تبان ورداء) وهذه الصورة التاسعة.

فإن قلت: كيف يدخل حرف العطف بين قال ومقوله؟

قلت: هو عطف على مقدر؛ تقديره: بقي شيء من الصور المذكورة، وأحسبه قال: في تبان ورداء، وإنما لم يجزم به أبو هريرة، بل ذكره بلفظ الحسبان لإمكان أن عمر رضي الله عنه أهمل ذلك؛ لأنَّ التبان لا يستر العورة كلها بناء على أن الفخذ من العورة، فالستر به حاصل مع القباء ومع القميص، وأما الرداء؛ فقد لا يحصل به، ورأى أبو هريرة أن انحصار القسمة يقتضي ذكر هذه الصورة، وأن الستر قد يحصل بها إذا كان الرداء سابقًا، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».

وقال ابن بطال: اللازم من الثياب في الصلاة ثوب واحد ساتر للعورة، وقول عمر رضي الله عنه: (إذا أوسع الله) يدل عليه، وجمع الثياب فيها اختيار واستحسان، ويقال: ذكر صورًا تسعة: ثلاثة منها سابقة: الرداء، ثم القميص، ثم القباء، وثلاثة منها ناقصة: الإزار، ثم السراويل، ثم التبان، وأفضلها: الإزار، ثم السراويل، ومنهم من عكس)، واختلف أصحاب مالك فيمن صلى في سراويل وهو قادر على الثياب، ففي «المدونة» : (لا يعيد في الوقت ولا في غيره)، ومثله عن القاسم، وعن أشهب: (عليه الإعادة في الوقت) وعنه: (أن صلاته تامة إن كان ضعيفًا) انتهى.

وفي «عمدة القاري» : (وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلي الرجل في لحاف ولا يتوشح به، وأن يصلي في سراويل ليس عليك رداء)، وبظاهره أخذ بعض أصحابنا، وقال: تكره الصلاة في السراويل وحدها، والصحيح: أنه إذا ستر عورته؛ لا تكره الصلاة به) انتهى.

وفي «مراقي الفلاح» : (وتكره صلاته في السراويل، وكذا في إزار مع قدرته على لبس القميص؛ لما فيه من التهاون والتكاسل وقلة الأدب) انتهى.

قال المحشي: (وهذا يفيد كراهة التحريم)، وقال في «فتح القدير» : (والصلاة متوشحًا لا تكره، وفي ثوب واحد ليس على عاتقه بعضه تكره إلا لضرورة العدم) انتهى.

وقال الشرنبلالي: (والمستحب للرجل أن يصلي في ثلاثة أثواب؛ إزار وقميص وعمامة، وللمرأة في قميص وخمار ومِقْنَعة) انتهى، بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح النون: ثوب يوضع على الرأس ويربط تحت الحنك، والقناع أوسع منه؛ لأنَّه يعطف من تحت الحنك ويربط على القفا، والخمار أكبر

<<  <   >  >>