للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الوقت ذاك.

وأمَّا المشركون والمنافقون؛ فإنما قالوا ذلك من حيث إنهم أعداء الدين، والأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا؛ لم يتركوا مقالًا ألبتة.

(فَذَلِكَ) جواب الشرط، وهو مبتدأ (الْمُسْلِمُ) بالرفع خبره (الَّذِي لَهُ) بالرفع صفته (ذِمَّةُ الله)؛ بكسر الذال المعجمة، كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله: (له)، والجملة صلة الموصول، والذمة: الأمان والعهد؛ والمعنى: في أمان الله وضمانه (وَذِمَّةُ رَسُولِهِ)؛ بكسر الذال المعجمة، ولأبي ذر: (وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في أمانه وضمانه، ويجوز أن يراد بالذمة: الذمام؛ وهو الحرمة، ويقال: الذمة: الحرمة أيضًا، وقال القزاز: الذمام: كل حرمة تلزمك منها ذمة، تقول: لزمني لفلان ذمام وذمة، ومذمة هذا؛ بكسر الذال المعجمة، وكذا لزمتني له ذَمامة مفتوح الأول، وفي «المحكم» الذمام والمذمة: الحق، والجمع أذمة، والذمة: العهد والكفالة، والجمع ذمم، وقال ابن عرفة: الذمة: الضمان، وبه سُمِّي أهل الذمة؛ لدخولهم في ضمان المسلمين، قال الأزهري في قوله تعالى: {إِلًا وَلاذِمَّةً} [التوبة: ٨] : أي: ولا أمانًا، كذا في «عمدة القاري».

(فَلَا تُخْفِرُوا)؛ بضم المثناة الفوقية وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء، من الإخفار، والهمزة فيه للسلب؛ أي: لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل؛ نحو: أشكيته؛ أي: أزلت شكايته، وكذلك: أخفرته؛ أي: أزلت خفارته، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقال ثعلب: خفرت الرجل؛ إذا أجرته، وأخفرته؛ إذا نقضت عهده، وقال كراع وابن القطان: أخفرته: بعثت معه خفيرًا، وقال القزاز: خفر فلان بفلان وأخفره؛ إذا غدر به، وقال ابن سيده: خفره خفرًا وخفورًا وأخفره: نقض عهده وغدره، وأخفر الذمة: لم يف بها، انتهى.

(الله) أي: لا تنقضوا عهده ولا تغدروه ولا تفوا (فِي ذِمَّتِهِ)؛ بكسر الذال المعجمة، والضمير فيه يرجع إلى الله تعالى أو إلى المسلم، والأول أظهر؛ لقربه؛ يعني: ولا رسوله، وإنما اكتفى في النهي بذمة الله وحده ولم يذكر الرسول كما ذكر أولًا؛ لأنَّه ذكر الأصل لحصول المقصود به ولاستلزامه عدم إخفار ذمة الرسول، وأمَّا ما ذكره أولًا؛ فللتأكيد وتحقيق عصمته مطلقًا، قاله إمام الشَّارحين.

وزعم الخطابي أن معنى قوله: (فلا تخفروا الله) : لا تخونوا الله في تضييع حق من هذا سبيله، انتهى.

قلت: وهذا قاصر، فإن من كان هذا سبيله بأن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ لا يجوز له التعرُّض في هذه الأشياء، أمَّا لو فعل شيئًا مخالفًا لأوامر الله تعالى ورسوله؛ فيجوز التعرض له بأن وجب عليه حد أو جلد أو حق وغير ذلك، فإنَّه حينئذٍ خرج عن كونه في ذمة الله تعالى؛ لأنَّ الذي في ذمته تعالى هو الممتثل لأوامره تعالى المجتنب نواهيه، فمن كان هذا سبيله؛ فهو في ذمة الله تعالى حقًّا.

أمَّا ما نشاهده من جماعة الشيعة في بلادنا الشامية من صلاتهم معنا، واستقبالهم قبلتنا، وأكلهم ذبيحتنا؛ فهو نفاق وتقية، فنتعرض لهم، وإذا وجب عليهم حد من قتل أو جلد أو نحوها؛ فعلنا بهم؛ لأنَّهم ليسوا في ذمة الله تعالى؛ فافهم.

ففي الحديث: دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم وورعهم حتى يبحث عن باطنهم؛ لأنَّ الله تعالى قد بين أحوال الناس وأن منهم من يظهر قولًا جميلًا وهو ينوي قبيحًا، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: ٢٠٤ - ٢٠٥]، وفي «الترمذي» عن بعض كتب الله: (أَبِي تغترون؟! وعليَّ تجترئون؟! فبي حلفت؛ لأبيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران).

وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله عليه السَّلام: «واستقبل قبلتنا»، وبيان ذلك أنه عليه السَّلام أفرد بذكر استقبال القبلة بعد قوله: «من صلى صلاتنا» مع كونه داخلًا فيها؛ لأنَّه من شرائطها، وذلك؛ للتنبيه على تعظيم شأن القبلة وعظم فضل استقبالها، وهو غير مقتصر على حالة الصلاة، بل أعم من ذلك، كما لا يخفى) انتهى.

ثم قال رضي الله عنه: ويستنبط من هذا الحديث: أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون الباطن، فمن أظهر شعائر الدين؛ أجريت عليه أحكام أهل الدين ما لم يظهر منه خلاف ذلك، فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطل غير أنه يرى عليه زي المسلمين؛ حمل على ظاهر أمره على أنه مسلم، حتى يظهر منه خلاف ذلك.

قلت: ويدل لهذا أنه عليه السَّلام قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن برجل بالنفاق قال: «هل شققت على قلبه، أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟»، فأحوال الناس تحمل على الظاهر دون الباطن؛ لأنَّ الباطن لا يطلع (١) عليه إلا الله تعالى، فالشرع يحكم عليه بالظاهر، أمَّا إذا تبين منه الخروج عن الشرع؛ فيحكم عليه بسبب خروجه، فالشاهد إذا شهد عند القاضي؛ سأل عنه في ظواهر أموره دون باطنها، ويكتفي به؛ فافهم.

ثم قال: وفي الحديث: ما يدل على تعظيم شأن القبلة، وهي من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدًا؛ فلا صلاة له، ومن لا صلاة له؛ فلا دين له.

قلت: يدل عليه قوله عليه السَّلام: «الصلاة عماد الدين، فمن تركها؛ فقد هدم الدين»، وقوله عليه السَّلام: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة...»؛ الحديث، فقد جعل عليه السلام الإسلام مثل قبة على أعمدة، فمن ترك منها واحدًا؛ فقد هدم القبة، كما تقدم في أول كتاب (الإيمان).

ثم قال رحمه الله: وفي الحديث: أن استقبال القبلة شرط للصلاة مطلقًا إلا في حالة الخوف، فمن كان بمكة -شرفها الله-؛ فالفرض في حقه إصابة عينها، سواء كان بين المصلي وبين الكعبة حائل؛ كجدار، أو لم يكن، حتى لو اجتهد وصلى فبان خطأه؛ فقال الإمام الرازي: يعيد، ونقل ابن رستم عن الإمام محمد بن الحسن: لا يعيد إذا بان خطؤه، سواء كان بمكة أو بالمدينة، قال: وهو الأقيس؛ لأنَّه قد أتى بما في وسعه، وذكر الإمام أبو البقاء أن


(١) في الأصل: (يضطلع)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>