للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

نبأ، والمصدر: النبأ؛ ومعناه: الخبر، تقول: نبأ وأنبأ ونبأ؛ أي: أخبر، ومنه أخذ: النبيء؛ لأنَّه أنبأ عن الله تعالى؛ أي: أخبر، واللام فيه لام الجواب، وتفيد التأكيد أيضًا.

فإن قلت: أين المفاعيل الثلاثة هنا؟

قلت: الأول: ضمير المخاطبين، والثاني: الجار والمجرور؛ أعني: لفظة (به)، والثالث: محذوف، أفاده إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أنَّ اللام بعد (لو) لام جواب قسم مقدر.

قلت: وهو ليس بشيء؛ لتصريح النحاة بأنها لام الجواب، وتفيد التأكيد؛ فافهم.

قال الشَّارح: (وفيه دلالة على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة؛ لقوله عليه السَّلام: «لو حدث في الصلاة شيء؛ لنبأتكم به»)؛ فافهم.

(ولكن إنَّما أنا بشر مثلكم) : لا نزاع أنَّ كلمة (إنما) للحصر، لكن تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة حصرًا مخصوصًا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، ومعنى الحصر في الحديث: أنه بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين لا بالنسبة إلى كل شيء، فإنَّ للرسول عليه السَّلام أوصافًا أخر، قاله إمام الشَّارحين.

(أنسى كما تنسون)؛ والنسيان في اللغة: خلاف الذِّكر والحفظ، وفي الاصطلاح: النسيان: غفلة القلب عن الشيء، ويجيء النسيان بمعنى: الترك؛ كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧]، وقوله: {وَلَا (١) تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: ٢٣٧]، انتهى.

وأَنسى -بهمزة مفتوحة، وسين مهملة مخففة- قال الزركشي: (ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه؛ لم يناسب التشبيه) انتهى.

قلت: وفيه نظر؛ فإن ضم الأول هو المناسب؛ لحديث: «لا تقل: نسيت، وإنما قل: أُنسيت»؛ بضم الهمزة؛ لأنَّ النسيان منسوب إلى الشيطان، قال تعالى: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: ٦٣]، وهنا غير مذكور، فتعين ضم الهمزة، وكونه لا يناسب التشبيه بعيد؛ لأنَّ (تنسون) مأخوذ من لفظ (أنسيت الأمر)؛ والمعنى: أنسى كما ينسى أحدكم، لكن بين اللفظين تغاير من حيث إنه أتى به بصيغة المتكلم وحده مع جمع المخاطبين؛ فافهم.

(فإذا نسيت) في الصلاة؛ (فذكروني)؛ أي: في الصلاة بالتسبيح ونحوه، ففيه جواز النسيان في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام، واتفقوا على أنَّهم لا يقرون عليه، بل يعلمهم الله تعالى به، وقال الأكثرون: (شرطه تنبيهه عليه السَّلام على الفور متصلًا بالحادثة)، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته.

والفرق بين النسيان والسهو: أن النسيان: غفلة القلب عن الشيء، والسهو: غفلة الشيء عن القلب، وعن هذا قال قوم: كان عليه السَّلام يسهو ولا ينسى، فلذلك نفى عن نفسه النسيان في حديث ذي اليدين بقوله: «لم أنسَ»؛ لأنَّ فيه غفلة، ولم يفعل.

وقال القشيري: (الفرق بينهما بعيد، كما في استعمال اللغة، وكأنه يلوح من اللفظ على أن النسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو: عدم الذكر لا لأجل الإعراض).

وقال القرطبي: (لا نسلم الفرق، ولئن سلمنا؛ فقد أضاف عليه السَّلام النسيان إلى نفسه في غير ما موضع بقوله: «أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني»).

وقال القاضي عياض: (إنما أنكر عليه السَّلام «نسيت» المضاف إليه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نسي»، وقد قال أيضًا: «لا أنسى» على النفي، «ولكن لأُنسَّى»، وقد شك بعض الرواة في روايته، فقال: «أنسى أو أُنسَّى»، وأنَّ «أو» للشك أو للتقسيم، وأنَّ هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك في حديث ذي اليدين؛ أنكره، وقال: «كل ذلك لم يكن»، وفي الرواية الأخرى: «لم أنس ولم تقصر»، أمَّا القصر؛ فبيِّنٌ، وكذلك «لم أنس» حقيقة من قبل نفسي، ولكن الله أنساني)، وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (وفي الحديث: جواز وقوع السهو من الأنبياء عليهم السلام في الأفعال).

وقال ابن دقيق العيد: (وهو قول عامة العلماء، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز السهو على الأنبياء عليهم السلام، وهذا الحديث يرد عليهم)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هم منعوا السهو عليه في الأفعال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك: بأن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه؛ لم تحصل منه مفسدة، بل يحصل فيه فائدة، وهو بيان أحكام الناسي، وتقرير الأحكام، وإليه مال أبو إسحاق الإسفرائيني).

وقال القاضي عياض: (واختلفوا في جواز السهو عليه صلَّى الله عليه وسلَّم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ، وبيان أحكام الشرع من أفعاله، وعاداته، وأذكار قلبه؛ فجوزه الجمهور، وأمَّا السهو في الأقوال البلاغية؛ فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على تعمده امتناع تعمده، وأمَّا السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة، وما يتعلق بها، ولا يضاف إلى وحي؛ فجوزه قوم؛ إذ لا مفسدة فيه).

قال القاضي: (والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من منع ذلك على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا (٢)، لا في صحة ولا في مرض، ولا في رضًى ولا في غضب، وأمَّا جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا؛ فغير ممتنع) انتهى، والله أعلم.

(وإذا شك أحدكم في صلاته)؛ الشك في اللغة: خلاف اليقين، وفي الاصطلاح: الشك ما يستوي فيه طرفا العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما وترجح على الآخر ولم يأخذ بما رجح ولم يطرح الآخر؛ فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر؛ فهو أكبر الظن وغالب الرأي، فيكون الظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان، انتهى.

(فليتحرى (٣) الصواب) : التحرِّي: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، وفي رواية مسلم: (فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، وفي رواية: (فليتحرَّى الذي يرى أنه صواب)، ويعلم من هذا أن التحرِّي: طلب أحد الأمرين وأولاهما بالصواب، قاله في «عمدة القاري».

(فليتم) بانيًا (عليه)؛ أي: على ما هو الصواب، ولولا تضمين الإتمام معنى البناء؛ لما جاز استعماله بكلمة الاستعلاء، وقصد الصواب في البناء على غالب الظن عند الإمام


(١) في الأصل: (فلا)، والمثبت موافق للتلاوة.
(٢) في الأصل: (لا عمد ولا سهو)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) كذا في الأصل وفي «اليونينية» بإثبات الياء.

<<  <   >  >>