للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الحرام: الحرم كله، والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الإسراء: ١] وهو صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما أسري به من خارج المسجد، فدل هذا على أنَّ الحرم كله يسمى بالمسجد الحرام، كذا قاله الإمام الرازي.

قلت: وهذا الدليل منقوض؛ لأنَّه عليه السَّلام أسري به ليلًا من بيته، وكان عليه السَّلام قد صلى في المسجد قبل ذلك، فأطلق الإسراء من المسجد؛ لكونه يُصلى فيه ويتعبد به، على أنَّ حجره عليه السَّلام أبوابها في حائط المسجد، وإسراؤه كان من حجرة عائشة باتفاق المحدثين، فليس فيه دليل على أنَّ الحرم كله يسمى مسجدًا حرامًا؛ فافهم.

ثم ذكر أنَّ فرض من يريد الصلاة عند الشافعي أن يستقبل عين الكعبة، والجهة غير كافية، ونقل عن صاحب «التهذيب» : أنَّ الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستديرين بالبيت، فلو امتد الصف في المسجد بحيث ازداد طوله على عرض البيت؛ فإنَّه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة، ومذهب الإمام الأعظم أنَّه يصح؛ لأنَّ إصابة الجهة عنده كافية في صحة الصلاة، واستدل الشافعي: بأنَّ كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك، وقد أوجب الله على كافة المكلفين استقبال القبلة، والمكلف لا يخرج عن عهدة ما كُلف به بالشك.

واحتج الإمام الأعظم رضي الله عنه بأمور من الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول:

أمَّا الكتاب؛ فقوله تعالى: {قَدْ نَرَى...}؛ الآيات، فظاهرها، بل صريحها يدل على أنَّ إصابة الجهة كافية؛ حيث قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤]؛ يعني: جهته وجانبه، ولأنَّه تعالى أوجب على المكلف أن يولِّي (١) وجهه إلى جانبه، ومن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه، فقد أتى بما أُمر به، سواء كان مستقبلًا للكعبة أو لا، فوجب أن يخرج عن العهدة بإصابة جهة الكعبة، وليس هذا أمر مشكوك؛ لأنَّ الله تعالى أوجب تولي الوجه؛ يعني: البدن كله إلى جهة الكعبة، فهو أمر متيقن، فوجب العمل به.

وأما السُّنة؛ ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه عليه السَّلام قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»، فلو كان الفرض إصابة عين الكعبة؛ لما كان ما بينهما قبلة، وذكر الفقهاء: أنَّ استقبال القبلة واستدبارها لغائط أو بول مكروهان، سواء كان في البنيان أو الصحراء؛ لما في «الصحيحين» أنَّه عليه السَّلام قال: «إذا أتيتم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا»، فإن هذا الحديث أيضًا يدل على أنَّ من لم يشرق أو يغرب في الخلاء؛ فهو مستقبل للقبلة أو مستدبرها، وهو يستلزم أن يكون ما بينهما قبلة، كما لا يخفى.

وأمَّا الإجماع؛ فإنَّ الناس من عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندسًا عند تعيين جهة القبلة فيها مع أنَّ إصابة عين الكعبة لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة، وحيث اجتمعت الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على صحة ما وقع فيها من الصلوات؛ علمنا أنَّ محاذاة عين الكعبة ليست بشرط، وأيضًا لو كان استقبال عين الكعبة واجبًا؛ لكان تعلم الدلائل الهندسية واجبًا على كل أحد؛ لأنَّ استقبال العين لا سبيل إليه إلا بتلك الدلائل، ولما كان تعلمها غير واجب؛ علمنا أنَّ استقبال العين غير واجب.

وأما المعقول؛ فإن الدائرة وإن كانت عظيمة يكون جميع القطع المفروضة محاذية لمركز الدائرة، والصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة محيطة بالكعبة، والكعبة كأنَّها نقطة لتلك الدائرة إلا أنَّ الدائرة إذا صغرت؛ ظهر التقوس والانحناء في كل واحدة من القطع المفروضة فيها، بل يرى كل قطعة منها شبيهة بالخط المستقيم، فلا جرم صحت الجماعة بصف مستطيل ممتد إلى جانبي المشرق والمغرب يزيد طوله على أضعاف مقدار البيت؛ لكون كل واحد مما فيه متوجهًا إلى عين الكعبة، فأمَّا النقطة المفروضة فيها؛ فإنَّما تكون محاذية لمركزها إذا كان الخط الخارج من كل واحدة منها واقعًا على المركز محاذيًا لها، ومجرد كونها من أجزاء الدائرة لا يستلزم ذلك، وهو ظاهر في أنَّ استقبال العين ليس بواجب، وإنما الواجب هو استقبال السمت والجهة، ومعنى استقبال السمت: أنا لو فرضنا خطًّا مستقيمًا من نقطة من النقط المفروضة في دائرة الأفق مارًّا على الكعبة واصلًا إلى النقطة المقابلة على الاستقامة؛ لكان الخط الخارج من جبين المصلي إلى ذلك الخط المار بالكعبة على استقامة من غير أن تكون إحدى الزاويتين الحادتين في الملتقى حادة والأخرى منفرجة، بل يحصل هناك قائمان، أو نقول: هو أن تقع الكعبة فيما بين خطين يلتقيان في الدماغ ليخرجا إلى العينين؛ كما في المثلث.

وذكر صاحب «الذخيرة» و «الكافي» و «النهاية» : (أنَّ من كان بمكة؛ ففرضه إصابة عينها إجماعًا حتى لو صلى مكيٌّ في بيته؛ ينبغي أن يصلي بحيث لو أزيلت الجدران؛ يقع الاستقبال على عين الكعبة، بخلاف الآفاقي فإنَّ فرضه إصابة جهتها لا عينها في الصحيح)، وهذا قول الشيخ أبي الحسن الكرخي، والشيخ أبي بكر الرازي؛ لأنَّه ليس في وسع المصلي سوى هذا، والتكليف بحسب الوسع، واحترز بـ (الصحيح) عن قول أبي عبد الله الجرجاني، فإنَّه قال: (من كان غائبًا عن الكعبة؛ ففرضه إصابة عينها؛ لأنَّه لا فضل في النص)، وهو قول الشافعي.

وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعلى قول الجرجاني والشافعي؛ يشترط، وعلى


(١) في الأصل: (يول)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>