للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إلى تبوك، وأثر عليٍّ كذلك من حيث إنَّه لم ينزل لما أتى خسف بابل، فأثر عليٍّ مطابق للترجمة على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك حديث ابن عمر مطابق للترجمة؛ لأنَّ المطابق للمطابق للشيء مطابق لذلك الشيء، وعدم نزولهما فيهما يستلزم عدم الصلاة فيهما، وعدم الصلاة لأجل الكراهة، والباب معقود لبيان الكراهة، فحصلت المطابقة) انتهى.

ثم قال: وفي الحديث دلالة على أن ديار هؤلاء لا تُسكَن بعدهم، ولا تتخذ وطنًا؛ لأنَّ المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيًا أبدًا، وقد نُهي أن تُدخل دورهم إلا بهذه الصفة، وروى الحاكم في «الإكليل» بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال: (رأيت رجلًا جاء بخاتم وجده بالحِجر في بيوت المعذَّبين، فأعرض عنه النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: «ألقِه»، فألقاه)، وقدمنا أن عند المؤلف في (المغازي) و (التفسير) و (الأنبياء) : أنَّه عليه السَّلام نهى أن يُستقى من مياههم... ؛ إلى آخر ما قدمنا.

وفي الحديث: المنع من المقام بدورهم والاستيطان بها، وفيه: الإسراع عند المرور بديار المعذبين؛ كما فعل عليه السَّلام في وادي محسر؛ لأنَّ أصحاب الفيل هلكوا هناك؛ ولهذا قنَّع النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رأسه لما مرَّ بديار المعذبين، وقد أسرع السير حتى جاز المدينة ولم يصلِّ هناك، وكذلك عليٌّ وضع على رأسه حين مرَّ بابل، وفيه: أمرهم بالبكاء؛ لأنَّه ينشأ عن التفكر في مثل ذلك، وقال ابن الجوزي: (التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل هذا المقام ثلاثة أقسام:

أحدها: تفكر يتعلق بالله تعالى إذ قضى على أولئك بالكفر.

الثاني: يتعلق بأولئك القوم إذ بارزوا ربهم (١) بالكفر والعناد.

الثالث: يتعلق بالمارِّ عليهم؛ لأنَّه وفق للإيمان، وتمكن من الاستدراك والمسامحة في الزلل) انتهى.

قلت: وعلى هذا؛ ينبغي أيضًا الإسراع عند المرور بمقابر الكفار اليهود والنصارى؛ لأنَّهم معذبين تنزل عليهم اللعنة والغضب؛ خوفًا من أن يصيبه منه شيء.

وفي الحديث: دلالة على كراهة الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، والباب معقود عليه، وفيه: دلالة على كراهة الدخول في تلك المواضع، سواء كانت موضع مقام الكفار أو موضع خسف أو عذاب، وأمر عليه السَّلام بهرق ما استقوا من بئر ثمود، وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأجل أنَّه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به؛ فرارًا من سخط الله تعالى، وقال: «اعلفوه الإبل»، فالوضوء به مكروه.

وأمره عليه السَّلام أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين وإن تقادمت أعصارهم، وخَفِيت آثارهم؛ كما أنَّ في الأول دليلًا (٢) على بغض أهل الفساد، وذمِّ ديارهم وآثارهم، هذا وإن كان التحقيق أنَّ الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمبغوض مبغوض.

وقال الإمام أحمد ابن حنبل: (ولا تصحُّ الصلاة في بقعة مغصوبة، ومقبرة، وحمام، وحشٍّ، وأعطان إبل، ومجزرة وإن كانت طاهرة، ولا في قارعة الطريق، ولا بأسطحتها، ولا في الكعبة)، قال ابن العربي: (فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»؛ فلا يجوز التيمُّم بترابها، ولا الوضوء بمائها، ولا الصلاة فيها؛ لحديث ابن عمر: «نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُصلَّى في سبع مواطن...»؛ الحديث، رواه الترمذي)، وقال مالك في «المجموعة» : (لا يصلَّى في أعطان الإبل وإن فرش ثوبًا، ولا على بساط فيه تماثيل، ولا في الدَّار المغصوبة، وذكر بعضهم: أنَّه كره مالك الصلاة في الدار المغصوبة)، قال القرطبي: (والصحيح الذي يدلُّ عليه الخبر والنظر: أنَّ الصلاة بكل موضع طاهر صحيحةٌ جائزة، وما روي من قوله عليه السَّلام: «إنَّ هذا وادٍ به شيطان»، وقول عليٍّ: «نهاني رسول الله أن أصلي [بأرض] بابل»، وقوله: حين مر بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المُعذَّبين»)؛ فإنَّه مردود إلى الأصول المجمع عليها، وما روي من النهي عن الصلاة في تلك المواضع؛ كله منسوخ ومدفوع بقوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فإنَّه قال: «أُعطيت خمسًا لم يؤتهن أحد قبلي...»؛ الحديث رواه الجماعة، ومن الجائز على فضائله عليه السَّلام الزيادة، وغير جائز النقصان، يدلُّ عليه قوله عليه السَّلام لأبي ذر: «حيث ما أدركتك الصلاة؛ فصلِّ، فإن الأرض كلها مسجدٌ (٣)» ذكره المؤلف، ولم يخص موضعًا من موضع.

وأمَّا حديث الترمذي؛ فهو انفرد به زيد بن جبيرة، وأنكروه عليه، ولا يعرف الحديث مسندًا إلا برواية يحيى بن أيوب عن (٤) زيد بن جبيرة، وكتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، فكتب إليه ابن نافع: (لا أعلم من حدَّث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل) ذكره الحلواني عن ابن أبي مريم عن الليث.

وحديث علي: (نهاني...)؛ إسناده ضعيف.

واتخاذه عليه السَّلام مسجده على مقبرة المشركين دليل: جواز الصلاة في المقبرة، وكذلك وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد، وروى النسائي عن طلق بن علي قال: (خرجنا وفدًا إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا...)؛ الحديث، وفيه: «فإذا أتيتم أرضكم؛ فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدًا»، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أنه عليه السَّلام أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.

وهذا كله حجة مستقيمة على أحمد ومن تبعه في عدم جواز الصلاة في تلك المواضع.

وقول ابن العربي: (فإن هذه المواضع مستثناة من قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا») ممنوع؛ فإنَّه دعوى باطلة لا دليل عليها، بل المراد بالأرض كلها، كما جاء في رواية المؤلف، كما سبق، والله تعالى أعلم.


(١) في الأصل: (بهم)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (مسجدًا)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (بن)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>