للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بالإضافة، فتنصبهما لا غير بإضمار فعل)؛ فافهم، (تقتله الفئة) أي: الجماعة (الباغية)؛ أي: المخالفة للإمام بتأويل، الخارجة عن طاعته بتأويل باطن ظنًّا وبمتبوع مطاع، قيل: هم الشاميون أصحاب معاوية رضي الله عنه الذين قتلوه في وقعة صفين (يدعوهم إلى الجنة)؛ أي: يدعو عمَّارٌ الفئة الباغية إلى سبب دخول الجنَّة؛ وهو إطاعة الإمام الواجب اتِّباعه؛ وهو علي بن أبي طالب، وأعيد الضمير إليهم وهم غير مذكورين صريحًا (ويدعونه إلى النار)؛ أي: تدعوا هؤلاء الفئة الباغية عمَّارًا إلى النار؛ أي: إلى سبب دخولها، فإنَّ الطاعة سبب دخول الجنَّة، كما أنَّ المعصية سبب دخول النار؛ وهي المخالفة، لكنَّهم معذورون؛ لتأويلهم الذي ظهر لهم، وسقط في رواية الأكثرين: (تقتله الفئة الباغية)، فأشكل عليها مرجع الضمير في (يدعوهم)، فإنَّه أعيد الضمير عليهم مع أنَّهم غير مذكورين صريحًا، لكن ثبت في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما هذه الزيادة، وكذلك ثبتت في نسخة الصغاني المقابلة على نسخة الفربري التي بخطه، ولهذا أثبتُّها تبعًا لإمام الشَّارحين.

ثم قال: (فإن قلت: كان قتل عمَّار بصفين، وكان مع علي بن أبي طالب، وكان الذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز أن يدعونه إلى النار؟! وأجاب ابن بطال فقال: «إنما يصح هذا في الخوارج الذين بَعَثَ إليهم عليٌّ عمَّارًا يدعوهم إلى الجماعة، وليس يصح في أحد من الصحابة؛ لأنَّه لا يجوز أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل»).

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (تبع ابن بطَّال في ذلك المهلَّب، وتابعه على ذلك جماعة في هذا الجواب، ولكن لا يصحُّ هذا الجواب؛ لأنَّ الخوارج إنَّما خرجوا على علي بن أبي طالب بعد قتال عمَّار بلا خلاف بين أهل العلم بذلك؛ لأنَّ ابتداء أمرهم كان عقيب التحكيم بين علي ومعاوية، ولم يكن التحكيم إلا بعد انتهاء القتال بصفِّين، وكان قتل عمَّار قبل ذلك قطعًا) انتهى.

ويقال أيضًا: إنَّ المبعوث إليهم عمَّار إنَّما هم أهل الكوفة ليستنفرهم (١) على قتال عائشة ومن معها في وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة كثيرون.

وزعم ابن حجر فأجاب: بأن المراد بالذين يدعونه إلى النار: كفار قريش.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (وهذا لا يصح؛ لأنَّه وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما زيادة توضح بأن الضمير يعود على قتلة عمَّار، وهم أهل الشام).

قال الحميدي: لعل هذه الزيادة لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدًا، ولم يذكرها في «الجمع بين الصحيحين»، قال: وقد أخرجها الإسماعيلي، والبرقاني في هذا الحديث، انتهى.

ثم قال إمام الشَّارحين: (والجواب الصحيح في هذا أنَّهم كانوا مجتهدين ظانين أنَّهم يدعونه إلى الجنَّة، وإن كان في نفس الأمر خلاف ذلك، فلا لوم عليهم في اتِّباع ظنونهم، فإن قلت: المجتهد إذا أصاب؛ فله أجران، وإذا أخطأ؛ فله أجر، فكيف الأمر ههنا؟ قلت: الذي قلنا جواب إقناعي فلا يليق أن يذكر في حق الصحابة خلاف ذلك؛ لأنَّ الله أثنى عليهم وشهد لهم بالخيرية والفضل بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: ١١٠] قال المفسرون: هم أصحاب النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم) انتهى.

قلت: ويؤيده قوله عليه السَّلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ولأن معاوية رضي الله عنه كان أمين الوحي وكاتبه، وثبت أنه عليه السَّلام قال له: «إذا ولِّيت؛ فاعدل»، فلهذا طلب الولاية لنفسه؛ حيث إنَّه بشَّره عليه السَّلام بها، فلا تغتر بقول الزنادقة الملحدين الذين يقذفون في حق معاوية رضي الله عنه، فهو بريء مما قالوا، فلو أنفق أَحَدٌ مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ فضلهم، كما صرح به الحديث وتمامه في «شرح الشفا» لمنلا علي القاري قُدِّس سره.

قال الحميدي: ويظهر لي أنَّ البخاري حذف هذه الزيادة وهي: «تقتله الفئة الباغية»؛ لنكتة، وهي أن أبا سعيد اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فدل على أنَّها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري، وأخرجها البزار بسنده إلى أبي سعيد، لكن فيه: قال أبو سعيد: فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «يا ابن سميَّة؛ تقتلك الفئة الباغية»، وقد عين أبو سعيد من حدَّثه بذلك؛ ففي «مسلم» و «النسائي» عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني أبو قتادة، فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد منه عليه السَّلام دون غيره.

(قال) أي: أبو سعيد: (يقول عمَّار: أعوذ بالله من الفِتن)؛ بكسر الفاء، جمع فِتنة؛ بكسرها أيضًا، وهي الامتحان والاختبار كقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: ٤٠]، يقال: افتتن الرجل؛ إذا أصابته فتنة، فذهب عقله أو ماله؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: أنَّ التعاون في بنيان المسجد من أفضل الأعمال؛ لأنَّه مما يجري للإنسان أجره بعد مماته، ومثل ذلك حفر الآبار، وكري الأنهار، وتحبيس الأموال التي يعم العامة نفعها.

وفيه: الحث على أخذ العلم من كل أحد وإن كان الآخذ أفضل من المأخوذ منه، ألا ترى أن ابن عبَّاس مع سعة علمه أمر ابنه عليًّا بالأخذ عن أبي سعيد الخدري؟ قيل: يحتمل أن يكون إرسال ابن عبَّاس إليه؛ لطلب علو الإسناد؛ لأنَّ أبا سعيد أقدم صحبة وأكثر سماعًا من النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، قلت: ومع هذا لا ينافي ذلك ما ذكرناه.

وفيه: أنَّ العالم له أن يتهيأ للحديث، ويجلس له تعظيمًا.

وفيه: ترك التحديث في حالة المهنة؛ إعظامًا للحديث وتوقيرًا لصاحبه، وهكذا كان السلف.

وفيه: أن للإنسان أن يأخذ من أفعال البِر ما يشق عليه إن شاء كما أخذ عمَّار لبنتين.

وفيه: إكرام العامل في سبيل الله والإحسان إليه بالفعل والقول.

وفيه: علامة النبوة؛ لأنَّه عليه السَّلام أخبر بما يكون، فكان كما قال.

وفيه: إصلاح الشخص ما يتعلق بأمر دنياه، كإصلاح بستانه وكَرْمِه بنفسه، وأنَّه كان السلف على ذلك؛ لأنَّ فيه إظهار التواضع ودفع الكبر، وهما من أفضل الأعمال الصالحة.


(١) في الأصل: (ليستفرهم)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>