للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

عني)، ثم نقل حسان ذلك بالمعنى، وزاد فيه لفظ: (رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ تعظيمًا له، ويحتمل أن تكون تلك لفظه عليه السَّلام بعينه؛ لأجل المهابة، وتقوية لداعي الأمور، كما قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران: ١٥٩]، وكما يقول: (الخليفة أمير المؤمنين يرسم لك)؛ لأنَّ فيه تعظيمًا له، وتقوية للمأمور ومهابة، بخلاف قوله: (أنا أرسم)، والمراد بالإجابة: الرد على الكفار الذين هجوه عليه السَّلام، وروى ابن ماجه، عن البراء بن عازب، عن حسان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهجهم أو هاجهم -يعني المشركين- وجبريل معك»، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري»؛ فافهم، (اللهم) أي: يا الله (أيِّده)؛ بفتح الهمزة، وتشديد التحتية؛ أي: قوِّيه، قال الشَّارح: وهذا دعاء منه عليه السَّلام لحسان، دعا له بالتأييد؛ وهو القوة على الكفار (بروح القُدُس) : الباء فيه تتعلق بقوله: (أيده)، والمراد به هنا: جبريل عليه السَّلام، يدل عليه ما رواه البخاري من حديث البراء بلفظ: (وجبريل معك).

و (القُدُس) : بِضَمِّ القاف والدَّال؛ بمعنى: الطهر، وسمي جبريل بذلك؛ لأنَّه خلق من الطهر، وقال كعب: القدس: الرب عز وجل، ومعنى روح القدس: روح الله، وإنما سمي بالروح؛ لأنَّه يأتي بالبيان عن الله تعالى، فتحيا (١) به الأرواح، وقيل: معنى القدس: البركة، ومن أسماء الله تعالى: القدوس؛ أي: الطاهر المنزه عن العيوب، ومنه: الأرض المقدسة وبيت المقدس؛ لأنَّه الموضع الذي يُتقَدَّس فيه؛ أي: يُتطَهَّر فيه من الذنوب، كذا قاله الشَّارح.

قلت: وقيل: روح القدس: مَلَك عظيم، أعظم الملائكة خلقًا، وقيل: مَلَك أشرف الملائكة، وقيل: خلق كهيئة الناس، وقيل: أرواح بني آدم، وبيت المَقْدِس؛ يقال: بفتح الميم، وإسكان القاف، وكسر الدَّال، ويقال: بِضَمِّ الميم، وفتح القاف، وفتح الدَّال المشددة؛ لغتان مشهورتان، قال في «الصِّحاح» : بيت المقدس؛ يشدد ويخفف، والذي يفهم من كلام الجوهري وإمامنا الشَّارح أنَّه اسم ومصدر، قال أبو علي: وأما بيت المقدس؛ فلا يخلو إما أن يكون مصدرًا أو مكانًا، فإن كان مصدرًا؛ كان كقوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [يونس: ٤] ونحوه من المصادر، وإن كان مكانًا؛ فالمعنى: بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره: على معنى إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، وقال الزَّجاج: البيت المقدس؛ أي: المكان الذي يطهر فيه من الذنوب، انتهى، والله أعلم.

(قال أبو هريرة: نعم)؛ أي: سمعته يقول ذلك، بل روى الترمذي مُصححًا عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان منبرًا في المسجد، فيقوم عليه يهجو الكفار).

قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للتَّرجمة غير ظاهرة ههنا؛ لأنَّه ليس فيه صريحًا أنَّه كان في المسجد، والتَّرجمة هو الشعر في المسجد، ولكن البخاري روى هذا الحديث في «بدء الخلق» وفيه التصريح أنَّه كان في المسجد، فقال: حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: مرَّ عمر في المسجد وحسان ينشد، فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله؛ أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس»، قال: نعم، وهما حديث واحد، ويقال: إن الشعر المشتمل على الحق مقبول؛ بدليل دعاء النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لحسان على شعره، فإذا كان كذلك؛ لا يمنع في المسجد، كسائر الكلام المقبول، ومراد البخاري من وضع هذه التَّرجمة: هو الإشارة إلى جواز الشعر المقبول في المسجد، والحديث يدل على هذا بهذا الوجه، فيقع التطابق بين الحديث والتَّرجمة لا محالة) انتهى.

ثم قال: (ففيه الدلالة: على أنَّ الشعر الحق لا يحرم في المسجد، والذي يحرم فيه الخنا، والزور، والكلام الساقط).

وقد اختلف العلماء في جواز إنشاد الشعر مطلقًا:

فذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: لا بأس بإنشاد الشعر الذي ليس فيه هجاء، ولا نَكْتُ عِرض من المسلمين، ولا فحش، وبه قال الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد بن الحسن، والشعبي، وابن سعد البجلي، وابن سيرين، وابن المسيب، والقاسم، والثَّوري، والأوزاعي، ومالك، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد؛ لحديث الباب، وحديث الترمذي عن عائشة المارِّ قريبًا، وحديث ابن ماجه، عن البراء، عن حسان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهجهم أو هاجهم -يعني: المشركين- وجبريل معك».

وذهب الحسن البصري إلى أنَّه يكره رواية الشعر وإنشاده، وبه قال: مسروق بن الأجدع، وإبراهيم النخعي، وسالم بن عبد الله، وعمرو بن شعيب؛ لما رواه ابن خزيمة في «صحيحه» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد)، وحسَّنه الترمذي، والطوسي، وما رواه أبو داود عن زُفر بن وثيمة عن حكيم بن حزام مرفوعًا: (نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يستفاد في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)، وما رواه عبد الرزاق في «مصنفه» من حديث ابن المنكدر عن أُسيد بن عبد الرحمن: أن شاعرًا جاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد قال: أنشدك يا رسول الله؟ قال: «لا»، قال: بلى، فقال له عليه السَّلام: «فاخرج من المسجد»، فخرج، فأنشد، فأعطاه عليه السَّلام ثوبًا، وقال: «هذا بدل ما مدحت به ربك»، وما رواه الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي من حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا»، ورواه البزار وابن أبي شيبة، وأخرجه المؤلف عن ابن عمر، ولما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يريه؛ خير من أن يمتلئ شعرًا»، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه والطَّحاوي والطَّبراني عن عوف بن مالك وأبي الدرداء.

وأجاب الجمهور: بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة، حتى قال ابن حزم: إنَّه لا يصح، وأما حديث حكيم بن حزام؛ فإنَّه ضعيف، كما قاله الإشبيلي، وقال ابن القطان: لم يبين أبو محمَّد من أمره شيئًا، وعلته الجهل بحال زفر؛ فلا يعرف، قلت: أما زفر؛ فإن حاله معروف، وقد وثقه عثمان الدارمي، ويحيى، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وصحح له الحاكم، وإنما العلة في حكيم بن حزام، وأما حديث أسيد؛ ففي سنده ابن أبي نجيح، شيخ الشَّافعي، وفيه كلام شديد، وهو ضعيف، فلا يعول عليه.


(١) في الأصل: (فيجيء)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>